السماء تهرب كل يوم، رواية للكاتبة اللبنانية كاتيا الطويل تنسج فيها خيوط من حكايات الوجع و النزيف الإنساني لمجموعة أفراد لا یجمعهم الزمان ولا المكان، أفراد معذبون على هذه الأرض لفظتهم تيارات الحياة لتلقي بهم على أرصفتها البعيدة لا يحملون معهم سوى ماض ثقيل و ذكريات أثقل لا يسعهم الهروب منها إلّا بالبوح لانه يخفف من الآلام الأنفس فليس هنالك حزن أقسى من الحزن الذي لا يمكننا البوح به.
تعد رواية السماء تهرب كل يوم، أول تجربة روائية للكاتبة كاتيا الطويل وقد كتبتها بطريقة احترافية ومهنية وبلغة عالية الوضوح في الفكرة والمعنى...
في هذا اللقاء الصحفي نسلط الضوء على رواية (السماء تهرب كل يوم)، وعن الفكرة الأساسية التي أرادت إيصالها الكاتبة للقراء وعن التقنيات التي لجأت إليها الكاتبة للخروج بعمل لاقى استحسان القراء...
لماذا السماء تهرب كلّ يوم؟
شئتُ أن تكون السماء في عنوان روايتي رمزًا لوجود الله في حياتنا، أردتها رمز إجابته لصلواتنا وأمانينا ورجائنا فيه. ليتحوّل هرب السماء أو غيابها إلى صمت الله عن تقديم الإجابات. صمت إزاء المجهول، إزاء العجز، إزاء الحزن، إزاء الخوف وإزاء قسوة الحياة.
وقع اختيارك على الكنيسة مكانا للقاء شخصيات ابطال الرواية؟
نعم، شخصيّات روايتي تلتقي جميعها في كنيسة وتجلس على مقعد خشبيّ عتيق مهترئ وتروح تروي قصصها لله الذي يحافظ على صمته على الرغم من الدموع الكثيرة التي تُذرف والأوجاع التي تعاني منها الشخصيّات. هرب السماء هو صمت الله عن تقديم إجابات وبرأيي هو أقسى أنواع الغيابات التي يمكن أن يعاني منها إنسان.
كيف ولدت فكرة الرواية؟
منذ صغري أقرأ الكتب السماويّة وأقرأ الميثولوجيا الإغريقيّة ويحزنني كثيرًا أنّ الإنسان في كثير من الأحيان يجد نفسه وحيدًا أمام المشاكل والصعوبات والتحدّيات. الإيمان الحقيقيّ تصعب المحافظة عليه وصمت الله في مواقف معيّنة قد يُحزن أكثر من المواقف الحياتيّة بحدّ ذاتها. ولدت على الإيمان بوجود الله ما دفعني إلى أن أتساءل عمّا يريده من الإنسان هذا المخلوق الصغير الضائع المتخبّط في متاهات الحياة. وأجد أنّ هذا الموضوع يؤرقني بمكان، فتراني أضع روايتي الثانية في خطّ فلسفيّ ألّيغوريّ يقترب من هذه التساؤلات الوجوديّة العبثيّة نفسها.
ما هي التقنيّات التي لجأت إليها أثناء كتابة هذا العمل؟
حاولتُ قدر المستطاع أن أهرب من التكرارات ومن الوقوع في التراجيديا السرديّة التقليديّة. جعلتُ راوي النصّ هو شيء: مقعد خشبيّ في كنيسة بعيدة بلا زمان ولا مكان. اعتمدتُ كذلك تعدّد الأصوات، الانتقال من راوٍ إلى آخر، بالإضافة إلى تقنيّة الكتابة بحسب مفهوم الأحجية وهو مفهوم شائع في الأدب اليابانيّ ويقوم على قاعدة أنّ كلّ فصل من فصول الرواية يقدّم جزءًا من رواية كُبرى تتشكّل وتكتمل في نهاية النصّ وحدها. فمن يقرأ الرواية مرّة ثانية يمكنه أن يلتقط بشكل أفضل التكرارات المقصودة، الرمزيّة المبطّنة والحبكة التي تتقسّم على خمسة فصول لتكتمل في النهاية فقط.
بما أنّك من لبنان، هل نجد لبنان بجميع أطيافه في أدبك؟
نعم طبعًا. فالمسلم موجود والمسيحيّ كذلك، بالإضافة إلى حضور الشاب اليهوديّ ومأزق وجوده في لبنان. لقد تأثّرت منذ طفولتي بالنسيج الدينيّ الثريّ الموجود في لبنان فهو الذي حثّني على قراءة الإنجيل المقدّس والقرآن الكريم وهو الذي حفّزني على استثمار شخصيّات حقيقيّة من محيطي في روايتي. فهناك المسلم والمسيحيّ والمتزمّت والإرهابيّ وإلى ما هنالك من نماذج بشريّة مختلفة الإنتماء والإيمان والعقيدة.
السماء تهرب كلّ يوم، هل هو بمثابة هرب من ماضينا وذكرياتنا؟
هذا هو تمامًا موضوع الرواية. الهرب. الشخصيّات جميعها تحاول الهرب من ماضيها ومن مكامن وجعها. لكنّ الهرب للأسف ليس دائمًا سهلاً ولا دائمًا ناجعًا. نلاحظ كذلك أنّ ثيمة الهرب تطال الله نفسه فهو بصمته وبوجوده الهائل أينما كان إنّما من دون وجود حسّيّ يهرب من مخلوقاته هو الآخر.
كيف استطعتِ استنطاق مقعد خشبيّ مهترئ وجعله يأخذ دور الراوي ضمن عمليّة السرد الروائيّ؟
كانت هذه اللعبة السرديّة أجمل ما في الرواية برأيي والفكرة التي بنيتُ عليها الرواية بأسرها. بعضهم أحبّها والبعض الآخر من القرّاء انتظر حتّى نهاية السرد ليكيل بعدها الإستيطيقيّ الجماليّ. وصلني رأي لأحد القرّاء المتخصّصين بأنّه وجد تكرار الوصف المتعلّق بالمقعد محدودًا وضيّقًا وهو رأي أتأسّف له لأنّني تقصّدتُ وصف المقعد بالصفات والنعوت نفسها في بداية كلّ فصل لأحافظ على وحدة السرد وعلى خيط الرواية. كان تشخيص المقعد من أجمل التقنيّات التي وظّفتها في هذا العمل وآمل أن يكون قد بلغ غايته لدى القرّاء.
ما رأيك بالتجارب الشبابيّة في عالم كتابة الرواية؟
أجد أنّ التجارب اليوم رائعة وجميلة وشيّقة وفيها الكثير من الإبداع والثقة. لقد تغيّر العالم العربيّ كثيرًا منذ ستّينيّات القرن العشرين، فدخلت نصوص من المغرب العربيّ ونصوص من الخليج وباتت الرواية حاضنة لواقع الدول العربيّة وللشباب العربيّ. وأكرّر هنا ما أقوله دائمًا: الكتب التي تستحقّ القراءة كثيرة والوقت قليل. قراءة الرواية العربيّة بحاجة لأعمار لتتمّ وليس لعمر واحد.
القصص في الرواية جاءت بالتتابع لكن يؤخذ عليها الإطالة في الوصف، وصف الحالة النفسيّة والاجتماعيّة للأبطال، ما رأيك بهذا الرأي؟
أجد أنّ هذا المأخذ صائب ودقيق. عندما كتبتُ هذه الرواية كنتُ متأثّرة بالأدب الكلاسيكيّ التلقيديّ الذي يميل إلى الإطالة والتدقيق والوصف. أردتُ جملي إنشائيّة طويلة والوصف شبيهًا بوصف ألف ليلة وليلة. روايتي الثانية الجنّة اجمل من بعيد جاءت بتقنيّة معاكسة فقامت على جمل قصيرة مبتورة من دون إطالة في الوصف ولا في الكلام. يبقى أنّ فعل التلقّي هو فعل شخصيّ ذاتيّ وما قد أراه مناسبًا وجميلاً وفنّيًّا قد يراه قارئ آخر مأخذًا وضعفًا، والله أعلم.
أستحضر في هذا الموضع مقتطفًا من الرواية تقولين فيه (ماذا لو استطاع الإنسان أن يهرب من فكّي القدر) هل القدر شيء محتّم لا مفرّ منه أم بإمكاننا أن نصنع أقدارنا؟
أنا بطبيعتي عبثيّة مائلة إلى التشاؤم والتسليم بالقدرة الإلهيّة. أؤمن بالمكتوب وبأنّ ما يصيب المرء ما كان ليخطئه وما أخطأه ما كان ليصيبه. لا يمكن للمرء أن يهرب من قدره برأيي. وهذا ما يظهر واضحًا في كتاباتي كلّها.
هل تقمّصت دور إحدى شخصيّاتك؟
أظنّني موجودةً فيها كلّها. كلّ شخصيّة من روايتي فيها شيء منّي من دون أن أصبّ نفسي كلّها فيها. هناك كذلك وجوه وأصدقاء ومعارف وأقرباء مستثمرون في نصّي إنّما بشكل خفيّ ومبطّن قدر الممكن. هذه لعنة الكتابة أن يضع المرء نفسه وماضيه على الورق وأن يترك نفسه عاريًا أعزل أمام قارئه.
هل جرّبت البوح كما هو حال أبطال السماء تهرب كلّ يوم؟
أنا فعليًّا ضدّ الكلام وضدّ البوح. أنا مع نظريّة أنّ الكتابة تحرّر ومن يكتب لا يحتاج إلى البوح ليطهّر نفسه من آلامها ومآزقها. على العكس، أجد أنّ الذكريات عندما ترتدي ثوب الكلام تصبح أقسى ومسنّنة أكثر. أفضّل البوح بالكتابة فهي أجمل ما في الوجود.
كاتيا الطويل في سطور...
كاتبة لبنانية من مواليد جنوب لبنان 1990.
حازت على شهادة الأجازة في اللغة العربيّة وآدابها، وشهادة الماجستير في المجال نفسه من معهد الآداب الشرقيّة في جامعة القدّيس يوسف ببيروت.
تعمل حاليا لنيل شهادة الدكتوراه في النقد الروائيّ من جامعة السوربون.
صدرلها رواية السماء تهرب كل يوم والجنة أجمل من بعيد. تمارس كاتيا الطويل الصحافة و تنشر مقالاتها بالنقد الأدبي في عدد من الصحف العربية و اللبنانية بالاضافة الى نصوصها المنشورة في عدد من الصفحات الالتكرونية الثقافية.
حوار : راميار فارس
التعليقات (0)
لا يوجد إلى الآن أي تعليقات