كوردستان تي في - الشرق الأوسط
نشرت جريدة "الشرق الأوسط" مقابلة مع الرئيس مسعود بارزاني تطرق فيها إلى أحداث وشهادات تاريخية للفترة التي سبقت إسقاط نظام صدام حسين وعملية الإطاحة به في 2003 والفترة التي تلتها، إلى جانب مواقف الدول خلال تلك المرحلة.
11 سبتمبر.. مرحلة جديدة قد بدأت
كان الرئيس بارزاني في مدينة دهوك وإلى جانبه نجله مسرور، حينما لمح على الشاشة طائرة تصدم برجاً شاهقاً، وحين تلاحقت الأخبار العاجلة قال للمحيطين به إن شيئاً كبيراً وخطراً يحدث في أميركا، وشعر أن مرحلة جديدة قد بدأت وإن لم تتضح أبعاد مخاطرها بعد. وأوفد مبعوثين إلى تركيا وسوريا وإيران لاستطلاع قراءة هذه الدول للانعكاسات المحتملة لـ"هجمات نيويورك وواشنطن".
كانت بغداد قلقة ومرتبكة تحاول بدورها فهم المرحلة الجديدة واتقاء أخطارها. أرسلت إلى الرئيس بارزاني تعرب عن استعدادها لفعل "أي شيء يرغب به"، لكنه رأى أن الوقت متأخر جداً ويأتي "بعد خراب العراق وليس البصرة وحدها"، وأن أي اتفاق مع النظام لن يصمد وسيتحول "عبئاً كبيراً على شعب كوردستان".
بداية إسقاط صدام حسين
في 17 شباط 2002 استقبل الرئيس بارزاني وفداً من وكالة الاستخبارات الأميركية. استخدم الوفد عبارات لافتة من نوع أن "أميركا قررت إزاحة نظام صدّام" وأن "الهجوم سيكون من محاور عدة" وأن "لدور الإقليم أهمية كبيرة في حساباتنا وأنتم مدعوون لزيارة واشنطن".
ورد الرئيس بارزاني بأن الكورد سيؤيدون "أي عملية ترمي إلى قيام عراق ديمقراطي فيدرالي تعددي" وأنهم يطالبون بضمانة من أميركا "أن يكون مستقبل شعبنا محمياً ومصوناً"، وأن واشنطن تستطيع إبلاغ دول الجوار "أننا لا ولن نشكل أي تهديد لأي شخص أو جهة" وأكد موافقته على تلبية دعوة واشنطن.
في الأول من نيسان استقبل الرئيس بارزاني، وبحضور قياديين من حزبه، وفداً من الخارجية الأميركية برئاسة مساعد الوزير رايان كروكر، حيث جدد الوفد موقف أميركا من نظام صدّام واقترح على الرئيس بارزاني زيارة واشنطن في 14 من الشهر نفسه وبالتزامن مع زيارة لجلال طالباني. نصح الوفد بأهمية ترتيب العلاقات داخل البيت الكوردي، مبدياً ارتياحه إلى ما تحقق وداعياً إلى معالجة أي توترات مع تركيا.
في 15 نيسان، صعد إلى طائرة خاصة كانت تنتظر في مطار فرنكفورت، الرئيس مسعود بارزاني، يرافقه نجله مسرور والقيادي في الحزب هوشيار زيباري، وزير الخارجية لاحقاً. وسيلتئم شمل الوفد الكوردي إلى أميركا بوجود جلال طالباني ونجله بافل والقيادي في حزبه برهم صالح، رئيس الجمهورية العراقية لاحقاً. في دار ضيافة اختارتها الأجهزة الأميركية في فرجينيا، سينعقد هذا الاجتماع الحاسم. حضر من الجانب الأميركي ماك لوخلين نائب رئيس «سي آي إيه»، والجنرال وين داونينك من الأمن القومي، ورايان كروكر من «الخارجية». وهذا يعني أن الاجتماع كان بمشاركة وتنسيق بين البيت الأبيض والاستخبارات والخارجية.
تحدث الجانب الأميركي بلهجة تفيد بأن قراراً بإطاحة صدّام اتُّخذ ولا عودة عنه. استخدموا عبارات صريحة من نوع "أميركا قررت وجوب إزاحة صدّام من السلطة"، وأن الكورد "يجب أن يحصلوا على حقوقهم كاملة"، و"أميركا موافقة على اعتماد النظام الفيدرالي في العراق"، وأن "أميركا لن تسمح بوجود أي تدخل خارجي"، وأن "أميركا يحدوها أمل كبير بدور الكورد في جمع وإعداد المعارضة العراقية".
كانت لهجة الجانب الأميركي واضحة وقاطعة. وجاء الرد الكوردي: "ما دامت أميركا قد اتخذت قرارها النهائي بإسقاط نظام صدّام، فإننا سنبذل كل ما في وسعنا للمساعدة في تحقيق ذلك. وما دام بديل النظام العراقي سيكون بديلاً ديمقراطياً وستُعتمد الفيدرالية لكوردستان فإننا سنبذل كل ما نستطيع وتعهّدنا بالتحرك للمّ شمل المعارضة".
في 18 نيسان، أعادت الطائرة الخاصة الوفدَ الكوردي إلى فرنكفورت. وفي تلك المدينة "اتفقنا أنا ومام جلال على أن نبذل كل مساعينا وجهودنا ونتخذ كل الاستعدادات اللازمة للتلاؤم والانسجام مع المستجدات والمتغيرات المتوقعة".
مناقشة البديل مع باريس ودمشق
من فرنكفورت، توجّه الرئيس بارزاني والوفد المرافق له إلى باريس. كانت قناعة المسؤولين الفرنسيين أن أميركا اتخذت قراراً نهائياً بإسقاط صدّام حسين. لهذا تركزت أسئلتهم على البديل. كرر الرئيس بارزاني أن البديل سيتم التوصل إليه بالتشاور مع أطياف المعارضة العراقية وأن النظام المقبل يجب أن يكون ديمقراطياً وفيدرالياً يضمن حقوق مختلف المكونات.
بعد باريس توجه الوفد إلى دمشق. رأى الرئيس بارزاني أن العلاقة القائمة مع سوريا منذ أيام الرئيس حافظ الأسد تُلزم الكورد بالتشاور مع بشار الأسد وأركان حكمه. "بعد الحديث عن الوضع العام في المنطقة سألنا عن إمكانية إزاحة النظام العراقي، فأبلغتهم أن القرار النهائي قد اتُّخذ بالفعل، وشعرتُ أن ذلك قد سرَّهم وأفرحهم كثيراً. وبخصوص مستقبل العراق أكدتُ لهم أن ليس هناك أي مخطط لتقسيم العراق وأنه لن يُسمح بوجود أي تدخل خارجي. وبخصوص موعد تنفيذ قرار إزالة النظام العراقي قلت لهم إن الأميركيين وحدهم مَن يعرف ذلك. كان نائب الرئيس السوري على قناعة تامة أن أميركا لن تتدخل عسكرياً في العراق وكان مستعداً للمراهنة على ذلك".
المخاوف التركية والازدواج الإيراني
في بدايات الصيف تواترت إشارات تفيد بأن أميركا قد تكون تراجعت عن قرارها إطاحة النظام أو تراخت في التحضير له. وترافق ذلك مع مناقشات مستفيضة أجراها هوشيار زيباري ونيجرفان بارزاني في أميركا. في 21 تموز وصل إلى أربيل وفد من المتخصصين والخبراء الأميركيين برئاسة تشارلز فتيس المعروف بـ"سام".
كشفت المداولات مع هذا الفريق أن تركيا تتخوف من أن يؤدي التغيير في العراق إلى قيام دولة كوردية. قال المسؤول الأميركي إن "تركيا تقوم كثيراً بابتزاز أميركا وتطلب أموالاً كثيرة. نحن جئنا لتقييم الأوضاع ولن يُسمح لتركيا بأي شكل من الأشكال بأن تتدخل في شؤون الإقليم". وسيزداد ظهور العقدة التركية مع اقتراب موعد التدخل العسكري الأميركي.
في تموز، دعت وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتين عدداً من قادة المعارضة إلى اجتماع. اقترح جلال طالباني المناورة لرفع مستوى اللقاءات مع الجانب الأميركي. لم يشارك الرئيس بارزاني في الاجتماع لأن سوريا لم توافق على أن تستقبل طائرة خاصة ترسلها أميركا لنقله من قامشلو. ناب هوشيار زيباري عن الرئيس بارزاني في الاجتماع الذي حضره أيضاً جلال طالباني وإياد علاوي وأحمد الجلبي وعبد العزيز الحكيم والشريف علي بن الحسين. التقى الوفد وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد ورئيس الأركان مايرز. وكان رامسفيلد قاطعاً، إذ قال إن "سياسة احتواء العراق ليست سياسة ناجحة. يجب أن ينطلق الهجوم على العراق من الجنوب والشمال في آن".
كانت إيران تراقب نُذُر العاصفة الأميركية التي تهدد بالهبوب على نظام صدّام. وأظهرت التطورات لاحقاً أن إيران التي اتخذت قراراً بتسهيل عملية إطاحة نظام صدّام اتخذت في الوقت نفسه قراراً موازياً جوهره زعزعة الوجود العسكري الأميركي في العراق، ومنع قيام نظام عراقي مستقر وموالٍ للغرب في بغداد. وبدا أيضاً أن دمشق اتخذت بالتفاهم مع إيران قراراً مشابهاً. وسيُكلَّف الجنرال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" بترتيب عملية استنزاف الجيش الأميركي الذي رابط على جانبي إيران الأفغاني والعراقي.
اتخذت أميركا قرار الحرب وانهمكت أجهزتها بالبحث عن ذرائع لإقناع الرأي العام الأميركي والدولي؛ اتهامات للنظام البعثي بإقامة علاقات مع "القاعدة" بزعامة أسامة بن لادن، واتهامات بالاحتفاظ بأسلحة للدمار الشامل. وجرى الحديث عن مختبرات بيولوجية جوالة. ويؤكد الرئيس بارزاني أن الحزب الديمقراطي لم يسهم من قريب أو بعيد في توفير مثل هذه الذرائع التي استُخدمت في الإعلام وكذلك في مجلس الأمن نفسه.
مطالب تركيا الأربعة والرد الكوردي
اقتربت الحرب وتصاعدت مخاوف تركيا. جاء من يبلغ الرئيس بارزاني بمضمون لقاء بين المسؤولين الأتراك والجنرال الأميركي تومي فرانك قائد القيادة الوسطى. قدم الوفد التركي في الاجتماع أربعة مطالب هي: - لا يجب أن تقوم أو تشكَّل أي دولة كوردية، لا يجب السماح للكورد بالسيطرة على مدينتي الموصل وكركوك، يجب أن يكون لتركيا رأي في النظام العراقي الجديد، لا يجب أن يشارك الكورد في عملية إسقاط النظام العراقي الحالي.
أبلغ ممثل الرئيس الأميركي لدى المعارضة السفير زلماي خليل زاد، الكورد بأن مشاركة تركيا في التحالف الذي سيطيح صدّام مهمة وضرورية. وكان واضحاً في الأسابيع الأخيرة أن الخطة الأميركية تقضي بالإطباق على نظام صدّام من الجنوب والشمال. وهذا يعني الانطلاق من الأراضي التركية والتقدم عبر معبر زاخو الحدودي. وكان موقف الكورد واضحاً ويقضي برفض أي مشاركة عسكرية إقليمية سواء كانت إيرانية أو تركية. وكانت المناقشات صاخبة خصوصاً بعدما تبين أن تركيا تشترط إرسال وحدات من قواتها إلى الموصل وكركوك للمشاركة في إسقاط صدّام والسماح للقوات الأميركية باستخدام أراضيها. وخلال أحد الاجتماعات أُدخلت للرئيس بارزاني ورقة تتضمن تصريحاً لرئيس البرلمان التركي يقول فيه إن القوات التركية ستدخل شمال العراق وستجرّد عناصر البيشمركة من أسلحتهم.
كان رد الرئيس بارزاني قاطعاً وعنيفاً وخاطب الجانب الأميركي قائلاً: "نحن سنقاتلهم (الجنود الأتراك) سواء جاؤوا معكم أو بمفردهم. في الحالة الأولى سنُتهم بالإرهاب وفي الثانية ستكون المواجهة ثنائية وفي إطار آخر. وقال إنه يعرف أن تركيا دولة ولديها جيش قوي لكن البيشمركة يفضلون المرور على جثثهم على تسليم سلاحهم. وذهب أبعد بالقول إنني سأقاتلهم حتى ولو بقيتُ وحيداً وسأنتظرهم عند زاخو".
لم تحصل المواجهة مع تركيا. لم يسلّم الجانب الأميركي بشروطها، ولم يسمح البرلمان التركي للقوات الأميركية بالمرور عبر أراضي بلاده، فاضطرت القوات الأميركية المرابطة في السفن قبالة السواحل التركية إلى تغيير وجهتها.
الحرب آتية لكنّ الإدارة الأميركية لم تبلغ حلفاءها بموعد الضربة الأولى. وفي ليل 19 إلى 20 مارس (آذار) 2003، اندلعت الحرب ليتغير وجه العراق ومعه توازنات المنطقة.
كان الرئيس بارزاني يراقب المشهد الدولي. الاعتراض الكبير جاء على لسان الرئيس الفرنسي جاك شيراك. على هامش قمة لحلف «الناتو» عُقدت في براغ قال شيراك لبوش إن "وقوع حرب سيضرب الاستقرار في المنطقة، وسيكون من نتائجه إيصال الموالين لإيران إلى السلطة في بغداد، وتعزيز نفوذ طهران في دمشق وكذلك في لبنان عبر (حزب الله)، ثم إن هذه الحرب لن تكون شرعية". لم تتوقف إدارة بوش طويلاً عند موقف بعض أطراف "القارة العجوز" خصوصاً أن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير اختار المشاركة في الرحلة الأميركية.
تأييد إيراني لقيام عراق فيدرالي
في ضوء ما سمعه الوفد الكوردي خلال زيارته السرِّية إلى أميركا في نيسان 2002، انعقد مؤتمر المعارضة العراقية في لندن في الشهر الأخير من السنة. غاب عن المؤتمر حزب "الدعوة" والحزب الشيوعي وغاب "البعثيون" المؤيدون لسوريا. كان الرئيس بارزاني مهتماً باستجلاء حقيقة الموقف الإيراني خصوصاً أن طهران تملك قدرة حاسمة في التأثير على بعض القوى العراقية.
يقول الرئيس بارزاني: "التناقضات التي ظهرت خلال مؤتمر المعارضة في لندن دفعتني إلى زيارة طهران. التقيت هناك الرئيس (السابق آنذاك) هاشمي رفسنجاني. كنت مهتماً بمعرفة موقفهم ليس فقط من موضوع الحرب الأميركية بل أيضاً من الصيغة التي اتُّفق عليها لقيام عراق فيدرالي، ما يعني صيغة دستورية لإقليم كوردستان. كان رفسنجاني مرناً كعادته ويتحدث بواقعية تأخذ في الاعتبار موازين القوى ومصلحة بلاده. قال إنهم سيعدّون إسقاط صدّام نصراً كبيراً ولكنهم لا يستطيعون إصدار تأييد علني للعملية التي ستؤدي إلى إطاحته. أيَّد رفسنجاني أيضاً قيام عراق فيدرالي وكان هذا الجزء من الحوار مهماً جداً لنا".
استبعاد نية أمريكا استهداف سوريا وإيران
وأضاف: "التقيت أيضاً خلال الرحلة الجنرال قاسم سليماني. لم يكن في تلك المرحلة معروفاً على غرار ما حصل في السنوات اللاحقة لكنه كان مسؤولاً عن ملف العراق". التقى الرئيس بارزاني أيضاً محمد باقر الحكيم وطلب منه أن ينصح وفد "المجلس الأعلى" الشيعي بأن يكون "أكثر واقعية في المناقشات المتعلقة بمرحلة ما بعد إسقاط النظام". وحين انعقد لاحقاً مؤتمر المعارضة العراقية في صلاح الدين في كوردستان، بدا واضحاً أن طهران أعطت لحلفائها الضوء الأخضر للمشاركة في عملية إطاحة النظام.
وحول ما إن كانت إيران هي الطرف الأول الذي قام باستنزاف الوجود العسكري الأميركي في العراق، ردّ الرئيس بارزاني بالإيجاب. وسألته إن كان الأميركيون عَدُّوا إيران هدفاً ثانياً محتملاً بعد العراق، فقال: "راجت في تلك الفترة روايات تقول إن العراق هو الحلقة الأولى من برنامج أميركي للمنطقة يتضمن لاحقاً عملاً عسكرياً ضد إيران وسوريا. الحقيقة أنني خلال لقاءاتي مع المسؤولين الأميركيين من مدنيين أو عسكريين لم أسمع يوماً بتوجه من هذا النوع. لم يصدر عن الأميركيين أي تلميح في هذا الاتجاه. ربما كان مثل هذا الكلام مجرد تحليلات أو أطلقته جهات أخرى لإشاعة التوتر أكثر في المنطقة. شكا الأميركيون أمامي من دور إيران. شَكَوا لاحقاً من الدور الذي يلعبه سليماني في دعم مجموعات تستهدفهم، لكنهم لم يتحدثوا مطلقاً عن استهداف إيران نفسها أو سوريا التي اتهموها بفتح حدودها لتسريب متشددين ومتطرفين لمقاتلة القوات الأميركية في العراق".
أحمدي نجاد يزور العراق
حين تم تشكيل مجلس الحكم الأميركي توزَّع أقطاب المعارضة الموالية لإيران على مقاعده أسوةً بآخرين. رسالة أخرى جاءت في 2007 حيث هبطت في مطار بغداد طائرة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى العراق.
شاهد أحمدي نجاد بأُمِّ العين حجم الانتشار العسكري الأميركي الهائل والذي كان يقدَّر بـ170 ألف جندي. كان وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري، رئيس بعثة الشرف المرافقة لأحمدي نجاد. جرت اتصالات أقنعت نقاط التفتيش الأميركية بعدم توقيف الموكب. لكن نقطة واحدة خالفت ما اتُّفق عليه، وتبين أن أفرادها كانوا يأملون بالتقاط صورة مع الرئيس الزائر. لم يمانع الرئيس الإيراني لكنّ البعثة المرافقة نصحته بعدم الخروج من سيارته.
الشماتة ليست من شيم الرجال
رافق حلم إطاحة صدّام، الرئيس بارزاني على مدار عقود رغم الهدنات والاتفاقات. وكان يُشترط للضلوع في أي خطة أن يكون البديل ديمقراطياً وفيدرالياً. لم يحاول الرئيس بارزاني زيارة صدّام في سجنه. ولم يذهب إلى جلسات محاكمته. ويختصر موقفه بالقول: "الشماتة ليست من شيم الرجال".
الرئيس بارزاني كان مرتاحاً لسقوط صدّام لكنه كان خائفاً أن يغرق العراق في تصفية الحسابات الدموية، وهي كثيرة. كان يخشى من الفراغ الذي سيخلِّفه إخراج صدّام من المعادلة بعدما كان على مدى عقود العمود الفقري للنظام. كان يخشى صداماً بين الشيعة والسنة، وبين العرب والكورد، وأن تتقدم القوى الإقليمية لتكريس العراق ساحة لأحلامها القديمة والجديدة. وأظهرت الأيام أن مخاوف الرئيس بارزاني كانت في محلها، فقد تصبَّب الدم غزيراً في بغداد وخارجها قبل أن يلتقط العراق أنفاسه.
آية قرآنية حين سقوط نظام صدّام
خشي الرئيس بارزاني أن يتعرض العسكريون العراقيون في المناطق الكوردية لأعمال ثأر رداً على عمليات الأنفال وتدمير آلاف القرى. أصدر أوامره الصارمة وحققت أغراضها. استسلم نحو 15 ألف ضابط وجندي فتم جمعهم في معسكرات وتأمين الغذاء والعناية لهم قبل مغادرتهم عائدين إلى مناطقهم. لم تشهد مناطق كوردستان عمليات قتالية، ولم يكن الجيش قادراً على التصدي للغارات الجوية الأميركية.
حين سقط نظام صدّام، يقول الرئيس بارزاني «تذكرت الآية الكريمة: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير». تذكر أيضاً يوم توجه وهو صبي إلى قصر الرحاب بعد المجزرة التي شهدها في 1958 وقرأ في مكان هناك عبارة تؤكد أن "الظلم لا يدوم".
فرصة تجنب المزيد من الآلام لو لا تفكير الأحزاب المعارضة
لم تكن الأحزاب المعارضة لصدّام تمتلك مقرّات في بغداد. توجهت إلى العاصمة على عجلٍ ونزل الرئيس بارزاني وفريقه في فندق «برج الحياة» الذي تحول مقراً للمداولات والاجتماعات. لم تكن القوى التي عادت إلى بغداد جاهزة للاتفاق وأضاعت فرصة. يقول الرئيس بارزاني إن أميركا أوفدت الجنرال جاي غارنر حاكماً مؤقتاً للعراق وطلبت من القوى العراقية الاتفاق على تشكيل حكومة مؤقتة لتنتقل إليها الصلاحيات. لم تعتد القوى الموجودة على فكرة التسوية وتبادل التنازلات، وتصرف معظمها كأن الفرصة تاريخية لانتزاع أكبر قدر من المكاسب. أسابيع ولم يتمكن العراقيون من الاتفاق على صيغة حكومة كان يمكن أن تُجنِّب العراق المزيد من الآلام.
كان أحمد الجلبي "متنبهاً لضرورة تشكيل حكومة. كان يلحّ على ضرورة الاتفاق قائلاً إن علينا أن ننجز ذلك قبل أن نُفاجأ بقرار ما يخلط الأوراق ويعقِّد المسألة. شدد مرات عدة على ضرورة حسم الموضوع لكننا لم ننجح. بعد كل اجتماع كنّا نعود إلى نقطة الصفر. هذه الحقيبة للحزب الفلاني وتلك لحزب آخر. أظهرت المداولات الكثير من الخلافات وصحّ ما توقعه الجلبي. لن يقيم الجنرال غارنر طويلاً وسيأتي بعده بول بريمر وسيحدث تطور كبير وهو تحول الولايات المتحدة وبرغبتها إلى قوة احتلال".
قرار حل الجيش العراقي.. "إعدام الميت"
يشبّه الرئيس بارزاني قرار بريمر حل الجيش العراقي "بإصدار حكم بالإعدام على شخص ميت". ويوضح قائلاً: "أدى الهجوم الأميركي إلى تفكك الجيش العراقي وتحلله. لم تعد هناك معسكرات أو تشكيلات أو قيادة أو رتب. لم يكن لقرار الحل من مبرر. كان الأجدى اتخاذ قرار سريع بإعادة تشكيل الجيش على أسس وطنية وديمقراطية سليمة". ونفى علمه بوجود خطة آنذاك تقضي بأن يلعب ضباط وجنود عراقيون دوراً في حفظ الأمن في المدن تفادياً لحصول احتكاكات بين الجيش الأميركي والأهالي. كما نفى أن يكون حزبه لعب سابقاً دوراً في إخراج رئيس الأركان السابق الفريق الركن نزار الخزرجي من بغداد، مؤكداً أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "هي التي أخرجته ونحن سمحنا بمروره في مناطقنا". ويلاحظ أن "الظلم الذي ألحقه النظام بالشعب العراقي بمختلف مكوناته جعل الكثيرين في الشمال والجنوب يستقبلون الجيش الأميركي بالورود في أيام دخوله".
التعليقات (0)
لا يوجد إلى الآن أي تعليقات