أربيل 6°C السبت 23 تشرين الثاني 08:16

عدّاد الناجين

قصة للكاتبة: سوسن البياتي
کوردستان TV
100%

 

- حمداً لله على سلامتك يا (أم رقية)، ماذا تحبين أن نسمي القمر الجديد؟ إنها قمر مثل أمها وأختها (رقية)، كم أنا محظوظ!

قال ذلك وهو يحاول التكلف؛ لرسم ابتسامة كاذبة يهش بها على حزنه، وله فيها مآرب أخرى، هي قصة، حبست غصة، وأتلفت اتزانه كالمتشردق بلذيذ الماء.

- سلمك الله... سمها ما شئت، فأنت أبوها.

قالت ذلك، وهي تبحث في عينيه عن حقيقة الابتسام أو تكلفه.

- دعيني أحملها... يا إلهي ما أجملها! سأسميها (إسراء)، أنا متاكد أن وجهها سيكون سعداً علينا، وسيكرمنا الله بعدها بصبي.

هنا تأكدت، أن ابتسامته كانت مزيفة، وفرحته مغلفة، وكم حقيقة تختفتي في ضمائر المضمرين، ونجوى تتلاشى في صوت المتخافتين، ونشيد يخبو في فم المتلعثمين.

هي تعلم أنه يتمنى الصبي كما هي تتمناه أيضاً، إنه إرثنا العربي، يصول في نفوسنا كالجواد الجامح، والمقامر الرابح. الصبيان مفضلون دائماً في نواميسنا الفكرية ومجتمعاتنا الذكورية. إلا آن ذلك لم يمنع السيد (ناجي) من العطف على بنتيه والتفاني في تدبر معيشتهما وتجهيز متطلباتهما بكل ما تسمح به قدراته.

كان يعمل في أحد محلات البقالة بكل نشاط وأمانة وإخلاص، ويمتلك مركبة بسيطة يغدو ويروح بها إلى عمله، ويقضي بها باقي شؤونه.

بعد تسعة أشهر، أحتُلَّت مدينة (الموصل) من قبل أفراد (تنظيم داعش)، هرب بعض السكان إلى خارج البلدة، بينما بقي الكثير منهم فيها. بقوا لسبب أو لآخر، فضلوا أن لا يتركوا ديارهم وممتلكاتهم، ربما لم تتوفر لهم سبل الهرب؛ من أموال لازمة أو دعم، أو تحسباً من خطر ما يفاجئهم في طريق الهروب.

لم يستطع السيد ناجي وعائلته الهرب، لأنه عامل بأجر يومي بسيط، ولم تكن بحوزته لمثل هكذا يوم أية ذخيرة، ولم يقابل الغد بمخبوء وخميرة، فهذا نهاره لليل يشكو ساعاته. وكم هي متربة حالته العسيره، وهناك من الأسباب ما هو أخطر، وهمه أكبر، زوجته (ثرية) كانت حُبلى، وأكدت الطبيبة أثناء الفحص الشهري لها آخر مرة بأجهزة السونار للجنين، أنها حبلى بتؤام ذكور، حدثته نفسه بعدم تعريضها وطفليها للخطر، بالإضافة إلى بنتيه؛ كيف ستستطيع الاعتناء بالطفلتين في المجهول الذي يجب أن يهربا نحوه؟ والأيام أنهار، يوم يفيض كنهر (دجلة) الخير، أم البساتين، تكشف النخيل عن سيقانها كي لا تبتل أثوابها والفساتين، وتزهو بما تحمل من ثمر يسر الناظرين. ويوم ينحسر النهر منزوياً، يظن أنه ظل طريقة فلا أشجار ولا نخيل ليتبعها، ولا حقول تغني فيسمعها؛ حتى يخيل إليه أنه من المغتربين. كانت تقطعه عظام المراكب، وكيف الآن أصبح جدولاً ضيقاً، مشياً تقطعه أقدام العابرين.

صعبت الحياة المعيشية في الموصل، إلى حد ما ضعفت الأعمال، وتراجعت الأحوال، وشحت الأموال، ناهيك عن الخوف الذي زرعه التنظيم في نفوس الأهالي، والرعب الذي خلقه في قلوبهم والفزع الذي أقلق مضاجعهم، حتى صار الجميع يتفادى بطش داعش، وإجرامه الفاحش.

مع هذا كان السيد ناجي لا يتوانى في العمل بأية مهنة كانت، وبأي أجر بسيط؛ من أجل عائلته، بل إنه باع مركبته البسيطة في مستهل الأيام القواسي، والنحس الراسي. وبعد فترة وضعت ثرية طفليها، هما قمران آخران (يوسف) و(يحيى)، وهكذا زينت الأقمار الأربعة منزل السيد ناجي وصارت تطوف في فلكه.

فداحة المواقف والخطر الزاحف، نحو أحياء البلدة، لم يطفئ سراج الطمأنينة الذي كان يشع من بيت السيد ناجي، والذي كان يستمد ضياءه من نور تلكم الأقمار الأربعة، كانت عائلة هادئة مطمئنة لا مشكلات لها تذكر، مهما الخطوب تكاثرت وبدت أكبر، إلى أن صار عمر التوأمين ثلاث سنوات.

تحرر الساحل الأيسر من مدينة الموصل من قبضة داعش منذ أشهر، والآن اتجه الجيش العراقي والبيشمركة لتطهير الساحل الأيمن منه؛ إنه الجانب القديم والمتهالك من المدينة، رفض داعش آخلاء المدينة من سكانها، كي يصعب على الجيش اقتحامها، استخدم داعش الأهالي كمصدات ودروع، كي يتحين سبل الهرب من خلالهم، ساعات هلع السكان، إذا ما احتدم الوطيس، وتخلى المرء عن الغالي والنفيس.

دارت المعركة ليالٍ عدة، تهاوت المنازل القديمة إثر عصف الانفجارات؛ منزلاً تلو الآخر، ودُفن من فيها أحياء. تعبدت الطرقات بجثث الموتى، وتطيبت برائحة الموت، العائلات ترتعد خوفاً وجوعاً وفزعاً، تهدأ الأصوات قليلاً يتنفس من بقي حياً الصُعَداء، فتعاود المعارك عزف سمفونية الموت الآتي مرة أخرى.

دخلت ثرية وبنتاها المطبخ مسرعة كي تعد وجبة سريعة للأطفال، اعتزموا الهرب بعد احتدام القتال وسقوط صواريخ عدة على بيوت الجيران، لم يأكلوا ولم يناموا من يومين، عمد الأب مع ولديه إلى توضيب حقيبة يد صغيرة، يلملم فيها بعض الملابس والمستمسكات الرسمية المهمة، فجأة دوى صوت هائل في البيت مصحوب بعصف شديد طار به وبولديه بعيداً، وقع الصاروخ في المطبخ ودفن ثرية وبناتها تحت أنقاضه.

بعد دقائق استعاد ناجي وعيه فوجد ولديه يبكيان وقد جُرحا برأسيهما وسالت الدماء من معظم أجزاء جسميهما، تغطيا كلياً بالتراب فصار الناظر إليهما لا يفرق إذا ما كانا مخلوقين بشريين أم تمثالين من الصلصال المرتجف.

انفج رأس الرجل أيضاً، حاول النهوض واستعادة قواه وهو يترنح بصعوبة، أبعد عنه ما سقط من أثاث وأحجار بكثير من الجهد، ضم ولديه إلى صدره وهو يصرخ ويبكي، كان أكبر جزء من البيت قد تهدم كلياً، وابتلع جثث بقية عائلته، بينما تصدع الجزء الباقي.

تيقن أن ثرية وبناته قد مُتن جميعاً، لقد سُوِيَّ الجانب الذي كن فيه مع الأرض، يصرخ ويبكي ولا مجيب لصراخته، ولا منفس لكرباته، ربما هناك من يموت في مكان آخر، من يدري، فالقصف متواصل، والموت تحصيل حاصل، وبلحظة هستيرية حمل طفليه باتجاه الشارع لا يلوي عل شيء. وما أن ابتعد بضع مئات من الأمتار إلا وأصبح في مرمى الفريقين، الجيش وتنظيم داعش، فإذا بقناص يستهدف فلذة كبدة يحيى، عاد مسرعاً به إلى البيت محاولا تطبيبه وإيقاف نزيفه، إلا ان الموت كان منه إليه أسرع؛ بل كان رديفه وصاحبه المقنع. عبثاً كان يصارع اللحظات والدقائق كي يمسك بنفس طفله قبل أن تترك جسده بلا عودة، جن جنون الرجل ولم يعد يعرف ما يفعل، خوف، حزن، جوع، ساعات ثقيلات موجعات.

فجع بكل أفراد بيته في يوم واحد لم يتبقى معه غير يوسف الصغير، انتبه له أخيراً؛ إنه فزع جائع عطِش متعب، انقطع صوته من البكاء والنحيب، يصرخ مع كل انفجار أو صوت رصاص، شاهد مقتل أهله كلهم في هذه الليلة، نظر مندهشاً إلى أخيه الذي اعتلى عرش الموت على صغر سنه، معتمراً تاج الرحيل. الآن ناجي لا يلوي على شي ولا يعرف بمَ يفكر، كان الهرب مع طفله هي الفكرة الطاغية على حواسه في تلك اللحظة، لكن كيف؟ عقله لم يتحمل موت صغيره بين يديه، ما زال جسمه ساخناً، سيفتح عينيه الأن وسيسمع كلمة (بابا) من فمه، بل إنه يسمعه الآن يقهقه ويناديه رغم ضراوة المعركة وشراسة الموقف وصوت الانفجارات، لمحت عيناه علبة واقعة على الأرض بسبب عصف الأنفجار، لم يكن متأكد من نوعها، ضربها على فخذه بقوة وصار يمسح بها على بنطاله، محاولا إزالة ما علق عليها من أتربة، تأكد أنها تحوي شريطاً لحبوب منومة، استخرج ثلاث حبات وأجبر يوسف على ابتلاعها كي يمنحه القليل من الراحة، ولكي يوفر عليه مشقة مشاهدة مناظر الفزع والخوف وجثث القتلى وصوت الرصاص في الخارح؛ إذ ما عاودا محاولة الفرار، نام الطفل ذي الثلاث سنين على الفور، أسقطه التعب والخوف والفزع كالمغشي عليه، حمل يوسف بيد واتجه صوب جثة ابنه يحيى، وحمله باليد الأخرى؛ وكأنه يخاف أن يتركه في تلك الخربة لوحده، أو لأنه يريد أن ينعم بدفنه بنفسه في مكان ما، ليتمكن من زيارته، أو كي يحظى بمرتبة الموتى وممارسة حقهم في مشروع الدفن في قبر يكتب عليه اسمه، وليس كما دفنت زوجته وابنتاه تحت الأنقاض قبل ساعات، حملهما وفر من هذا الخراب عله يفوز بوحيده.

كان الظلام حالكاً لا تضيؤه غير جدحات الأعيرة النارية، أو لهيب الانفجارات المدوية، يرتعد وهو يركض بهما كشجرة تعبث بها الريح الغاضبة فلا يستقر بها الحال على اتجاه، كان جبينه يتصبب عرقاً، الأتربة والسخام الأسود يملئان ثيابه وشعره وشفتيه وأهداب عينيه، لم يعلم كم كيلو مترٍ مشى، ولا كم ساعة قضى، ولا في أي اتجاه يسير، لكنه ابتعد عن مصدر النيران وخطرها.

خبت شعلة نشاطه منذ فترة، وما كان يدفعه إلى مواصلة السير غير الرهبة، جلس على الأرض وأنزل عنه طفليه، كآلة استنزفت ما عبأت بها من وقود، قلبه يريد أن يخرج من مخبئه من التعب والجزع والحزن والفزع، بدأت قواه تخور وتركيزه يتلاشى، أشفق على جثة ابنه أن تتعفن آذا ما بقى يدور بها من محطة مجهولة إلى أخرى قبل أن يواريها الثرى، وبدا أنه لا جلد لديه أكثر كي يقوى على حملهما معاً.

بدأ يحفر الأرض بيديه العاريتين من كل شي إلا من سلاح الغضب، الآكل للتعب، صيّرتْ الفجيعة كفاه فؤوساً ومعاول، وضجيجاً يأكل بعضه بعضاً مثل فعل القنابل. وضع الصغير في الحفرة بهدوء بعدما ضمه إلى صدره وهو ينتحب، أطلق آهةً طويلةً، ثم قام وعالج أمر الحفرة مسرعاً، أعاد ما نبش من تراب على جثة ولده على عجل، بقى يبكي حاله على القبر، لا أحد يخفف عنه همه أو يهون عليه لوعته، إلى أن سقط رأسه على قبر ابنه فنام كالمغشي عليه، لا يعلم من أمر نفسه وأمر ما حوله شيئاً.

أتت الشمس على رأس الرجل وجسده، وطرقت باب حواسه فاستيقظ مشدوهاً، نظر حوله كالمجنون محاولاً تذكر ما حدث معه قبل نومه، متوسلاً من الله أن يكون ما مر به مجرد كابوس، نظر إلى التلة الصغيرة التي صنعها بأصابعه وأظافره، تذكر ابنه يحيى الذي دفنه البارحة، نظر إلى يوسف الذي وضعه ليلاً على الأرض، هو آخر ما تبقى له من رائحة الحياة، قال له:

- بقينا وحيدين يا يوسف، استيقظ، انظر، حتى يحيى غادرنا.

نظر إلى يوسف، بحلق فيه جيداً، فرك عينيه واقترب منه أكثر، صمت وفتح عينيه بخوف، ثم صرخ الرجل صرخةً مدويةً:

- لااااااا!

كان يحدث يحيى المتوفى ظاناً أنه يوسف الذي دفنه بيديه، التفت إلى القبر سريعاً وبدأ ينبشه فزعاً، صرخ ناجي؛ الناجي الوحيد من عائلته وهو ينبش القبر:

- يوسف.

 

سوسن البياتي

الثقافة والفن الأدب

التعليقات (0)

لا يوجد إلى الآن أي تعليقات

اكتب تعلیقاً

هل ترغب بتلقی الإشعارات ؟
احصل على آخر الأخبار والمستجدات