يَظهر سيناريو "فَناء البشرية"، هذه الأيام، أقربَ ما يكون إلى حبكة لرواية من روايات الخيال العلمي، أو لفيلم من تلك الأفلام التي تبرع في ابتزاز المخاوف البشرية، والتي نزلت من أعلى شجرة الخيال إلى التعاطي اليومي والهواجس الفردية.
تبدو البشرية، حالياً، مستسلمةً لما يتجاوز الخيال والحبكات الروائية، إلى واقع خالص تماماً تتصدّر تفاصيله وصوره الأليمة نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي: "إن لم يكن كورونا في كل مكان، فهو قادم إليكم لا محالة".
هكذا، ببساطة شديدة، تجد البشرية نفسها، شيئاً فشيئاً، أمام تهديد وجودي يحيل حواراتها الحالمة، وهي حوارات عن المستقبل وأفضل ما يمكن أن تفعله، إلى أحاديث تدفع عن نفسها أخطار الفناء بـ"النجاة" والخلاص الفردي والذود عن حصون البشر، وأقلّها الخروج بأقلّ خسائر سيناريوهات اللحظة الغامضة.
أحاديث النجاة، أحاديثٌ تتجنّب الخوض في تفاصيل المستقبل، لكنها تنغمس في تفاصيل مفرطة في الماضي، في اللحظة المتحرّرة من ثقل الأفكار الراهنة وتهديدها الفردي المباشر؛ إذ تبرع أوقاتُ الوباء في تحويل كل الهواجس إلى هواجس فردية، بل مفرطة في الفردية. لقد أعاد فيروس كورونا، في الأشهر الأخيرة، إنتاج هذه المخاوف تحديداً مرّة أخرى، مخاوف الفناء والاندثار والتداعي الحر إلى العدم، وهي مخاوف دفينة، أو كامنة منذ الأزل، لم يخترعها من عدمٍ الفيروسُ أو سلسلةُ الفيروسات الغريبة التي ظهرت في العقدين الأخيرين؛ بل نجح كورونا أو ما بات يطلق عليه من باب التمييز بـ "Co-VID 19" بدغدغتها أو إعادة تنشيطها على قاعدة "ماذا لو" التي تفتح أبواب الشيطان!
تتجلّى المخاوف في شكلها الأساس في ما يشبه الخوف من الفناء في لحظة طوارئ كونية، في الوقت الذي باتت كل الأخبار المتتبّعة للوباء تُغذّي هذه الهواجس، نظراً لسرعة الانتشار، وأخبار عمليات العزل التي طاولت رؤساء دول وشخصيات كبيرة في العالم، وأخبار الوفيات بالجملة هنا وهناك، وما رافق ذلك من أخبار عن مقابر جماعية وارتباك دول كبرى إزاءه.
لكن الفيروس المستجد لم يُحدث صدعاً في بنية الحماية الفردية وهشاشة الصحّة العامّة في المجتمعات. لقد كشفت الحالة من جملة ما كشفت هشاشة التضامن الإنساني، وبنت من جملة ما بنت شروخاً شديدة القسوة بين الناس، لا سيما تلك العنصرية المستحدثة ضد الآسيويّين في شوارع بعض المدن العربية، وكأن الفيروس، وهو يمارس هوايته في انتهاك أجهزة المناعة البشرية والإجهاز عليها، يختار الآسيويّين دوناً عن كل الناس، وكأنَّ العرب أنفسهم لم يضيقوا ذرعاً حين تعرّضوا لتلك العنصرية القائمة على تهمة الإرهاب وما انطوى عليها من تعميمات ضيّقة وفق فرضيات قائمة على شعارات الشرق المتخلّف والشرق المنغلق على ذاته والشرق الغامض.
الكثير من القصص تأتي تباعاً من دول عربية عن آسيويّين يتعرّضون لأبشع أشكال التنمّر والرفض والإقصاء في المشهديات اليومية، وهم أناس تهمتهم الوحيدة أنّهم يحملون ملامح آسيوية، متجاهلين كل النصائح الطبية والاستدلالات الإحصائية حول الإصابة والانتشار واللحظة الوبائية التي أخرجت الفيروس من خصوصية الجغرافية الآسيوية، موطن انطلاقه، إلى عالميته الفسيحة في هذه اللحظة، متجاوزاً الحدود السياسية للدول والقارّات إلى حقيقة أنه أصبح همّاً أرضياً يستدعي من جملة ما يستدعيه وعياً اجتماعياً ومتانة إنسانية، إلى جانب إجراءات باتت الحكومات مجبرةً عليها.
لم يتوقّف الشرخ الثقافي عند كونه موجّهاً ضد الآسيويّين، بل تجاوزه إلى آليات التعبير عن الوقاية الشخصية، وتحديداً إزاء المصابين أو المشتبه في إصابتهم بالمرض، كتجلٍّ من تجلّيات حالات الهلع المنفلتة التي تُعزّز شعوراً دونياً لدى المصابين. ولعلّ أبرز تلك القصص التي وردت عن حالة هروب وتدافع كبيرة شارك فيها ممرّضون وأطبّاء شهدتها إحدى المستشفيات المحلية في فلسطين لحظةَ تسلُّل خبر عن إصابة محتملة في قسم الطوارئ.
ولعلَّ الناظر إلى التاريخ الوبائي في العالم وتحديداً منذ منتصف القرن الثامن عشر، وحتى هذه الأيام، سيُدرك أنَّ التحوُّلات الوبائية، من أشدّها فتكاً كالهواء الأصفر "الكوليرا" والسل والتيفوئيد، مروراً بالإنفلونزا الإسبانية مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى الأشكال الحديثة من الفيروسات: جنون البقر والسارس وإنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور، سيدرك أن البشرية وإن استطاعت التغلُّب على أقدمها، فإنها لن تكون محصّنةً تماماً أمام سلسلتها المتجدّدة القادمة؛ إذ تبدو الفيروسات أكثر قدرة على ابتداع وسائل تجديد ذاتي توازي بل تجاري ديناميكة التطوُّر البشرية المتسارعة، لتكون العينُ مسلّطةً على ما سيأتي بالضرورة، لا على ما يحدث الآن.
أمير داود
كاتب من فلسطين
المصدر: العربي الجديد
راميار فارس ...KURDISTAN T V
التعليقات (0)
لا يوجد إلى الآن أي تعليقات