في مشهد جدير بأن يكون بداية لرواية بوليسية غامضة أو خاتمة لملحمة تراجيدية فاجعة، عثرت الشرطة الإيطالية أواخر سبتمبر/أيلول 1990 على الروائي ألبرتو مورافيا (1907-1990) ملقى في غرفة الاستحمام في شقته بالعاصمة الايطالية روما وقد فارق الحياة.
وقد خلّف مورافيا وراءه عشرات الأعمال الأدبية من قصص وروايات ومسرحيات ومذكرات ورحلات شكلت -رغم اختلاف أنماطها الفنية- مدونة مزعجة صادمة قد تبدو في ظاهرها مجرد أدب يقوم على العراء والمغامرات الجنسية التي لا تنتهي، ولكنها في الباطن تعرية للمجتمع وإدانة له ومساءلة عميقة لمنزلة الإنسان فيه وفي الوجود ككل.
سرير أبيض
في العاصمة الإيطالية روما، وفي خريف العام 1907، استقبلت عائلة "بينكرلي" ذات الأصول البرجوازية مولودها الثاني بكامل الحفاوة والاستبشار.
كان القادم الجديد ذكرا هذه المرّة، وقد علّقت عليه العائلة آمالا كبيرة في أن يواصل حمل اسمها وتخليده، وأن يرعى قيم المحافظة وفضائل الأخلاق، وتلك هي الرسالة الأهم والأسمى في نظر الجميع.
كان كلّ شيء ينبئ بأن المصير الذي أعدّته العائلة لابنها الذكر "ألبرتو بينكرلي" سيتحقق لا محالة، ولكن القدر كان يخفي ما لم يتوقعه أحد.
فالصبي الذي نشأ في وسط تغلب عليه العناية بالهندسة والمحاماة والفيزياء وبشؤون المال والأعمال سيخالف التقاليد العائلية الراسخة وسيتجه وجهة مغايرة قادته صوب الأدب والرواية والمسرح، والأدهى والأمرّ أن هذه الوجهة نفسها قد دفعت به إلى إنكار لقبه العائلي الرسمي وإلى اختيار اسم مستعار سيحلق به في سماء الشهرة، اسم "ألبرتو مورافيا".
ولم يكن الطريق إلى هذا العالم المسكون بالخيال والبعيد كل البعد عن آفاق انتظار العائلة سوى سرير المرض ذي الملاءة البيضاء.
ففي التاسعة من عمره (1916)، وبعد سنوات قليلة تردد فيها الصبي ألبرتو على المدرسة مثل سائر أترابه، تفطن الأطباء بجهد جهيد إلى أنه مصاب بحالة نادرة من حالات مرض السل.
في حضرة الكبار
وقد استدعى شفاؤه منها وتخطيه لمضاعفاتها أن يظل حبيس الفراش طيلة خمس سنوات كانت كافية لأن تجعل منه -رغم أنفه- شخصا مغايرا تماما لما كانت تنتظره منه العائلة، ومختلفا عما ترجوه منه الطبقة التي ينحدر منها ويفترض أن يكون لسان حالها.
فعلى امتداد فترة مرضه، وأمام عجزه عن اللعب مع أترابه الصغار خشية أن تصيبهم منه العدوى، اضطر ألبرتو مورافيا إلى "اللعب مع الكبار"، كبار الأدباء والشعراء، فانغمس في مطالعة عيون الأدب العالمي، وقرأ مؤلفات كارلو غولدوني ودوستويفسكي وجيمس جويس وموليير وشكسبير ومالارمي وغيرهم، وتعلم من خلال الصفحات التي التهمها التهاما اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية.
ولعل أهم ما طبع هذه الفترة من حياته، بل حياته كلها ثلاث نقاط أساسية؛ أولاها أنه حصّل تكوينا أدبيا متينا متنوعا، لم يقتصر فيه على جنس واحد من أجناس الكتابة أو على لغته الأم فقط، بل انفتح على أكثر من لسان وعلى أكثر من أسلوب.
ثانيتها أنه جمع بشكل مبكر نسبيا بين القراءة والكتابة، فهو لم ينفك طيلة السنوات الخمس التي قضاها على فراش المرض عن نظم القصائد الشعرية سواء بالإيطالية أو بالفرنسية، كما لم يتوقف عن وضع مخططات كبرى للأقاصيص والروايات التي يحلم بكتابتها.
ثالثتها، وهي الأهم، أنه استطاع أن يصوغ ما يمكن أن نسميه -مستعيرين مصطلحا من مصطلحات السرديات- بـ"الرؤية من الخارج".
فالعزلة التي فرضتها عليه حالته الصحية، وتقييد الأطباء لحركته، ومنعهم الزيارة عنه ومخالطة الآخرين له، كل ذلك أتاح له أن ينظر إلى العالم من زاوية مخالفة للسائد والمألوف بعين لا تتفطن لما يتفطن له الآخرون ولا تلتقط ما يلتقطون.. عين جعلته يبدو "غريبا" في نظر الآخرين بل "غريبا" حتى في نظر ذاته لذاته.
ألوان الطيف
وبعد خمس سنوات من التسمّر في سرير المرض الأبيض، كانت سنوات من النقاهة ورحلة إلى شمال ايطاليا لاستكمال العلاج، وإلى جانب نصوص نشرها هنا وهناك في بعض الجرائد والمجلات الإيطالية، شرع ألبرتو مورافيا في كتابة روايته الأولى التي ظهرت عام 1929 تحت عنوان "اللامبالون" (أو "المستهترون").
الرواية انتقل فيها مورافيا بشخصياته من سرير إلى آخر، لا لكي يصف آلام المرضى أو أنات المعذبين، بل لكي يشرّح العلاقات الاجتماعية التي اتخذت من الرغبات الجنسية محورا لها في انتهاك فاضح لقيم الفضيلة وللتسامي الأخلاقي المعلن.
بلغة بسيطة مباشرة قطعت مع أساليب البلاغة القديمة، وبعيدا عن أشكال الوعظ والإرشاد والنزعات الأخلاقوية الزائفة، عرّى ألبرتو مورافيا واقع البرجوازية الإيطالية، وكشف عن السوس الذي ينخرها وينخر ذوات أفرادها من الداخل.
لم يوافق أحد من الناشرين الإيطاليين على طبع الرواية التي بدت بشخوصها وأحداثها وأطرها الزمانية والمكانية الفضفاضة "ضبابا من الكلمات" يسير في صمت وفي إصرار ضد التيار السائد آنذاك، والذي هيمنت عليه وعلى إيطاليا برمتها الحركة الفاشية منذ سنوات العشرين وإلى أواسط الأربعينيات.
ومع ذلك، تحدى ألبرتو مورافيا الجميع ونشر عمله على نفقته الخاصة، وكأنما ألقى بفعلته تلك حجرا ضخما في بحيرة إيطاليا الراكدة.
فقد شكلت الرواية صدمة للقراء ومفاجأة للنقاد، إلى درجة أن أعمال الكاتب اللاحقة ستقاس عليها وستقارن باستمرار بها، بل إن ألبرتو مورافيا سيكشف في مذكراته التي صدرت سنة وفاته بالذات (عام 1990) عن حقيقة قلما انتبه إليها مؤرخو الأدب، حقيقة أن رواية "اللامبالون" كانت في صميمها وبصرف النظر عن الهواجس الجنسية الطاغية عليها رواية وجودية بامتياز سبقت بزمن غير يسير أعمال الكاتبين الفرنسيين ألبير كامو وجون بول سارتر اللذين اشتهرا بأنهما رائدا الأدب الوجودي، بل أبواه المؤسسان.
أمام المرآة
بروايته الأولى "اللامبالون"، كرّس ألبرتو مورافيا اسمه في الساحة الأدبية الإيطالية وواصل النشر بشكل منتظم، مطوّرا نهج كتابته في نفس الاتجاه وبمزيد من العمق، فأصدر روايات "الحياة الحلوة" (عام 1935) و"الطاعون" و"أغسطين" (عام 1944) و"فتاة روما الجميلة" و"العصيان" (عام 1947) و"الموافق" (عام 1951).
لكن العملين اللذين زاداه تكريسا وشهرة على الصعيد العالمي تمثلا في روايتيه "الاحتقار" (عام 1954) و"السأم" (عام 1960) اللتين وجدتا -إلى جانب رواية "الموافق"- طريقهما إلى السينما على يد أكثر المخرجين إثارة للجدل، ونعني بذلك الفرنسي جون لوك غودار مخرج فيلم "الاحتقار" (عام 1963)، والإيطالي برناردو برتولوتشي مخرج فيلم "الموافق" (عام 1970)، ومواطنه داميانو دامياني مخرج فيلم "السأم" (عام 1963).
خمس وعشرون سنة تفصلنا على وفاة ألبرتو مورافيا ظلت خلالها أعماله تثير الصدمة بعريها وفضائحيتها إلى درجة الإنكار والاستهجان، ولكنها ما زالت وفي نفس الوقت قبلة القراء والمترجمين كما يشهد بذلك ارتفاع نسب مبيعاتها عبر العالم.
ولعل هذه المفارقة الصميمة هي أبلغ درس نستخلصه من أدب هذا الكاتب الذي فضحت نصوصه مظاهر النفاق الاجتماعي واهتراء طبقة تبطن ما لا تعلن وتستر ما لا تريده أن ينكشف.
عبر سطور مؤلفاته المختلفة، قام ألبرتو مورافيا بعمل غاية في البساطة قلما أقدم عليه الآخرون، فقد وضع المرايا مباشرة أمام وجوه قرائه.
ولكن تلك المرايا الساحرة الساخرة لم تعكس الوجوه فحسب، بل عرت السوءات والنوايا وكشفت عن بؤس إنسان القرن العشرين وسقوطه القيمي المدوي في عالم مريض مليء بالضجر والاستيهامات التي لا نهاية لها.
راميار فارس ...kurdistan t v
الجزيرة
التعليقات (0)
لا يوجد إلى الآن أي تعليقات