الكاتب: طالب الأحمد
للأوهام سلطة على البشر تفوق أحياناً سلطة المقدس..وحين تُوظّف الأوهام سياسياً يصبح خطرها بمستوى المخاطر النووية وربما أكثر.
ذلك أنها تخلق صورة نمطية سلبية للغاية عن الآخر وتُوفّر عِتاداً ثقافياً لعملية صناعة العدو. والأخطر من كل ذلك أن تُوظف الأوهام المُتخيّلة عن طائفة ما، أو أثنية ما، أو عن شعب ما، لتبرير حروب أهلية ونزاعات دموية تُستخدم فيها شتى الأسلحة حتى المُحرّمة منها شرعياً ودوليا ً.
والتاريخ يحدثنا بأن الكثير من الحروب الطاحنة خاضها بنو البشر ضد بعضهم البعض استناداً إلى أوهام يتصورها المتحاربون كحقيقة مقدسة وهم لا يشعرون!، ثم سرعان ما تتبدّد تلك الأوهام حين يحلّ السلام أو عندما تدق ساعة الحقيقة، ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما حدث على أرض العراق في العقود الأخيرة، ويحدث حتى الآن في بلدان أخرى من حروب ونزاعات تُذكي نيرانها سلطة الوهم.
هل اتعظ بنو البشر؟ بالتأكيد لم يتعظوا، فالأوهام لاتزال تغزو العقول حتى يومنا هذا على الرغم من تراكم دروس التاريخ القديم والحديث، ورغم طوفان العولمة وثورة الإتصالات التي تتيح لكل إنسان التعرّف – بسرعة فائقة - على ما يجهله بلمسة بسيطة على محركات البحث في الهواتف النقالة، بل يمكن القول أن تقنيات الإعلام الحديث منحت المتلاعبين بالعقول قُدرات إضافية لتزييف الوعي وتصدير الأوهام بطرق ماكرة تجعلها تبدو أقرب ما يكون إلى الحقائق!. على أن مخاطر سلطة الأوهام لا تتبدى فقط في عالم السياسة والصراعات بين الدول أو بين الطوائف والإثنيات ، بل تتبدى أيضا في الحياة الإجتماعية وفي السيرة الذاتية للإنسان حين يصبح الوهم موجهاً للسلوك ودافعاً لإتخاذ قرارات غير مدروسة وغير عقلانية، وكذلك حين يصبح الوهم حاجزا عن التفكير بواقعية وإدراك الواقع كما هو.
وأحسبُ أن كل إنسان حين يراجع حياته الماضية ويتأملها بعمق سيكتشف الكثير من الأوهام التي جرفته في مساراها وكان يتصورها كحقيقة أو يقين لايقبل الشك !. ومن ذلك وهم السعادة المُتخيّلة، فكثيراً ما نتوهم أن السعادة تكمن في أمرٍ ما نسعى ونجهد لنواله ثم يتبين لنا فيما بعد – وربما بعد فوات الأوان- أن الأمر لم يكن يستحق العناء وأن حسابات البيدر اختلفت كثيراً عن حسابات الحقل، كما في الحالات التي يتوهم فيها الإنسان أن السعادة تكمن في الاقتران بمن يُحب دون سواه، فتصبح للمشاعروالأوهام سلطة تقاوم سلطة الأعراف والتقاليد وحتى حسابات المنطق أحياناً، ومن يزور محاكم الأحوال الشخصية سيجد كم من قصص الحب المتوهجة بالأوهام انتهت بعد الزواج بطلاق أحال الغرام إلى إنتقام !. أو أن يتوهم المرء أن السعادة تكمن في السعي دوما إلى إكتناز المال بكل السُبل، أو بالهجرة عن بلده إلى بلاد أخرى يتوهم أنها تجسد الجنة الموعودة، ثم يصدمه الواقع بحقائق مُذهلة تجعل من هجرته أقرب ما يكون إلى اللهاث وراء خيط دخان!. والأوهام تزدهر في الخيال وتقوى سلطتها على الذات في فترة الشباب غالباً، أما في مرحلة خريف العمر فتبدأ الأوهام بالتبدّد والتلاشي ويصبح الإنسان أكثر ميلاً للتفكير بواقعية ولقبول الواقع كما هو ، ولذلك يصعب على المتاجرين بالأوهام أن يجدوا سوقاً لبضاعتهم المزجاة في أوساط الكهول وكبار السن.
وربما يسأل سائل: وكيف السبيل للفكاك من سلطة الوهم؟ من وجهة نظري أرى أن الإيمان والوعي كفيلان بمواجهة سلطة الوهم، وجعل حياة الإنسان تتسق وتنسجم مع الواقع فلا تنخدع بسراب الوهم، وبقدر ما يُوفّر الإيمان طمأنينة قلبية وراحة نفسية، فإن الوعي يُعمق الإيمان وينقل الإنسان إلى مراتب الرقي والكمال حتى يرى الأشياء كلها بعين الله تعالى..
ومن أراد التحرّر من سلطة الوهم عليه أن يُحسن التوكل على الله تعالى في الأمور كلها، وأن يسترشد ويدعو دوما بما ورد في الأثر الشريف: "اللهم أرني الأشياء كما هي".