كفاح محمود كريم
ثلاثة مفاهيم وسلوكيات يمارسها البعض من دون دراية مسبقة أو كرد فعل انعكاسي، أو ربما للتغطية على أمر يتقاطع كلياً عن فكرة التشدد والتعصب والتطرف في محاولة لإخفاء جملة حقائق لا يريد أصحابها انفضاح أمرها، ولعل أبرز الذين يمارسون هذه السلوكيات هم من أصحاب التوجه الأحادي الذي لا يقبل الرأي الآخر، بل ينفيه بالمطلق أو يحاول إلغاءه.
والأمر لا يقتصر على الأفكار والآراء السياسية فحسب، بل يمتد إلى أنماط من السلوكيات الأخرى، خاصة تلك التي تتعلق بالعادات والتقاليد، والتعصب الأعمى للانتماء القبلي أو القومي وما يتمخض عنه من تطرف في الأفعال وتشدد في التعامل مع الآخرين، وباختصار فإن التعصب هو شعور داخلي يجعل الإنسان يتشدد فيرى نفسه دائماً على حق ويرى الآخر على باطل بلا حجة أو برهان، ويظهر هذا الشعور بصورة ممارسات ومواقف متزمتة ينطوي عليها احتقار الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته، ومن هنا يأتي التشدد أيضاً كمظهر من مظاهر الغلو الذي يتضح بشكل جلي في الأفكار والأحكام والعقائد الآيديولوجية، وخاصة في المعتقدات الدينية والمذهبية، ويميل دوماً إلى التعسير مبتعداً عن التيسير ومطالبة الآخر بما لا يطيقه وإلزامه بما لا تلزمه العقيدة أو الشرع.
والاثنان معاً يقودان إلى التطرف ابتعاداً عن الوسطية والعقلانية والطبيعة الإنسانية، حيث يكون التطرف بثلاثة اتجاهات؛ الأول منها فكري والثاني مظهري والثالث ديني بحت، وأما الأول فهو الخروج عن القواعد الفكرية والثقافية التي يتفق عليها المجتمع، والمظهري يكمن في إثارة الرأي العام للخروج عما هو مألوف لدى العامة من حيث المظهر والسلوك، وفي الثالث تكمن الكارثة التي يسببها التطرف في المعتقد، حيث مجاوزة حد الاعتدال فكراً وعملاً والابتعاد عن روح النص وأهدافه.
وفي جانب آخر، يرى العديد من علماء النفس والاجتماع أن ظاهرة التطرف والتعصب لدى البعض تخفي في باطنها أشياء وحقائق تتقاطع كلها مع مظاهر الشخص المتعصب أو المتطرف الذي يعاني من مشكلة تتعلق في الأصول أو البدايات أو مجموعة مركبات نقص يحاولون تغطيتها من خلال ذلك التطرف أو التعصب، ولربما شهدنا أو سمعنا عن كثير من متطرفين دينيين يخفون تحت عباءاتهم سلوكاً مناقضاً بالتمام والكمال عما يظهرونه أمام الناس، وكذا الحال بالنسبة للمتطرفين حد العنصرية في القومية أو العرق، حيث يعاني أكثرهم من الانتماء إلى عروق غير تلك العروق التي يظاهرون بالانتماء لها، أو ربما يغطي البعض منهم عيوباً سلوكية أو اجتماعية لا يعرفه منها إلا القليل النادر، كما تؤكد بعض المصادر العلمية وعلماء التغذية على تطرف آخر ولكن بشكل يختلف عن بقية أنواع التطرف الأخرى، ويتمثل هذا الشكل بتناول الأكل بشكل كبير زائد عن حاجة الجسم البشري، وبعيداً عن العوامل الوراثية التي تسبب هذه الظاهرة لدى بعض الناس، فهي تخفي تحت طياتها الكثير من العوامل النفسية الأخرى غير المرئية والمدفونة في العقل الباطني أو الذاكرة الطفولية والبيئية، ويعرف الاختصاصيون في علم النفس والتغذية دوافع تلك الظاهرة من التطرف الغذائي!
وخلاصة القول، فإن التطرف في أي من مناحي الحياة الدينية والسياسية والفكرية والقومية والعرقية تلغي الآخر بتكثيف فكرة واحدة متشددة ومتعصبة تحجب الرؤية عن أي شيء غيرها، حيث أنتجت تلك الظاهرة المتعصبة والمتطرفة أنماطاً من التنظيمات الفاشية سواء على شكل أحزاب أو منظمات أو جمعيات قادها التطرف والتعصب إلى القيام بأعمال إرهابية منظمة، كما حصل قديماً في قيادة تلك المجموعات لدول كبيرة مثل ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وما تداعت له الأمور بشكل مريع في كلتا الدولتين وفي العالم أجمع، ومن أبرز إفرازات تلك المرحلة ما حصل في العديد من دول الشرق الأوسط من نشوء حركات ومنظمات مشابهة قادت بلدانها وشعوبها إلى حروب وكوارث فاقت في خسائرها ودمارها ما حصل في كلتا الدولتين، خاصة منذ نهاية أربعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا في كل من فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان التي أعطت خير دليل على تلك الظاهرة التي قادت العالم إلى حروب كارثية راح ضحيتها الملايين من البشر.
إن نظرة متفحصة لطبيعة الحياة ومظاهرها وهذا التوازن العظيم في عناصرها يعطينا درساً بالغاً ونحن نتعايش مع مكونات الحياة الأخرى من الحيوانات والنباتات والظواهر الطبيعية المتوازنة، وكيف تكون النتائج حينما تخرج الرياح أو الأمطار عن توازنها الطبيعي، حيث الفيضانات والعواصف المدمرة... حقاً، إذا كان الجسم السليم والمعافى لا يقبل أي خلل أو تطرف، فإن منطق الحياة السليمة والفكر الإنساني الخلاق، لا يقبل إطلاقاً أي نوع من التطرف مهما كانت هويته أو سمته، وتحت أي مسمى أو عنوان.