تتذكر شعوب كثير من بلدان الشرق الأوسط وخاصةً في سوريا وليبيا والجزائر والسودان وإيران والعراق ما حدث بعد انقلاباتها السياسية خاصةً في عملية بناء المؤسسات العسكرية والأمنية، وما رافقها من غلق الدولة واقفالها لحساب أجهزة الامن والمخابرات وبقية المؤسسات التي تتحكم بالفرد وحياته الخاصة وعلاقاته وتضعه دوماً محك شكوك حتى لمجرد علاقة عادية مع أي أجنبي في بلاده.
وتجلى ذلك أكثر في النموذج العراقي للدولة المغلقة منذ ستينيات القرن الماضي حيث أطبق نظام الحزب الواحد من خلال أجهزة الأمن والاستخبارات والمخابرات وميليشيا الحرس القومي والجيش الشعبي على دائرة حركات ونشاط الفرد حتى في حياته الشخصية أو أي علاقة أو تواصل مع أجنبي داخل البلد حتى وإن كانت مع أولئك العاملين في المشاريع الحكومية الصناعية منها أو الزراعية، حيث تؤدي مثل هكذا علاقة إلى التحقيق والترهيب وربما التغييب، وبذلك أصبحت الدولة عبارة عن مستشفى مغلق للمصابين بأمراض وبائية يمنع اختلاطهم مع الآخرين، ناهيك طبعاً عن أمواج الأسئلة والتحقيق حينما يحاول المرء استصدار جواز سفر أو السفر للخارج.
لا نريد الدخول في تفاصيل تلك الحقبة المغلقة، لأننا كنا ننتظر أن يكون البديل مغايراً، لكن ما حصل بعد نيسان 2003 وباستثناء بعض الإكسسوارات، كان كارثياً حيث تحولت الدولة من دولة مغلقة إلى دولة منخورة، وتبين أن دودة الأرضة ليست لوحدها قادرة على نخر الأشجار، فقد أثبتت النظم السياسية الراديكالية وبالذات تلك التي أنتجتها الانقلابات تحت مسميات الثورة في معظم بلدان العالم الثالث سواء في أميركا اللاتينية أو في كل من أفريقيا وآسيا، وبشكل متميز في دول الشرق الأوسط العربية منها والإسلامية منذ أن أطاحت بريطانيا وأمريكا وحلفائهما بتلك الأنظمة حيث تفوقت على الجميع في ظهور وانتشار دودة أرضة سياسية وعسكرية وأمنية في هياكل تلك الدول وخاصة التي انتجها الربيع العربي وابتلعتها الدول المحيطة بها، فقد كشفت عملية إماطة اللثام مؤخراً عن قتلة أحد الناشطين العراقيين، مدى هول حجم النخر الكبير والخرق المريب داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية العراقية التي تم إذابة معظم الميليشيات ذات الولاءات المختلفة في بوتقة المؤسستين اللتين يفترض أنهما تأسستا على ثوابت المواطنة والولاء للوطن والشعب وليس لحزب أو دين أو مذهب أو دولة أجنبية تحت أي ذريعة كانت، مما يؤكد أن إعادة تشكيل القوات المسلحة والمؤسسة الأمنية بعد 2003، لم يعتمد على تلك الثوابت حيث انهارت المؤسستين في أول تحدٍّ لهما مع الإرهاب في حزيران 2014م، وسقوط ما يقرب من ثلثي أراضي العراق ومدنه تحت سيطرة منظمة تنظيم الدولة الإرهابية.
إن الدولة المغلقة التي انفجرت على نفسها، أنتجت لنا دول منخورة حتى العظم كما هي الحال اليوم في سوريا وليبيا والعراق من خلال عمليات الخرق التي قامت بها الأحزاب والميليشيات المتطرفة بشقيها السني والشيعي والتي تمّت إذابتها ودمجها مع المؤسستين العسكرية والأمنية حتى تلاشى الانتماء والولاء وتشتت ما بين تلك القوى على حساب مفهوم المواطنة والجيش والأمن الوطنيين اللذين يفترض أن يكونا فوق الانتماءات السياسية والدينية والمذهبية والمناطقية، بما يؤهلها أن تكون ممثلة لكل الشعب ومكوناته على اختلاف أطيافه وانتماءاته، وما يحصل اليوم هو نتاج صناعة قوى ميليشياوية لحماية النظام خارج المؤسسات السيادية المعروفة كالجيش والشرطة والامن الوطني، كما في الحرس القومي والجيش الشعبي في العراق وسرايا الدفاع في سوريا واللجان الشعبية في ليبيا والحرس الثوري في إيران ومؤخراً في كل من العراق ولبنان وسوريا واليمن ميليشيات مذهبية ذات ولاءات عابرة للحدود تحت ذات النهج في الشعار القومي (أمة عربية واحدة) ولكن بإيقاع ديني ومذهبي، يمنحها بعض صلاحيات الرب في الحكم بدلاً من الحكم باسم الأمة!
في النتيجة فشلت الدولة المغلقة حينما انفجرت عليها شعاراتها لكي تلد لنا دول منخورة بشعارات دينية مذهبية كما هي الان في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن ولبنان وايران، وبقي الخلل الرئيسي في بنية هذه الدول المتعددة المكونات قوميا ودينيا ومذهبيا، والمتمثل في اقصائها للآخرين ومركزيتها لحساب مكون واحد مهما اختلفت الشعارات وطبيعة النظام الجديد الا انها تقاتل من اجل الهيمنة والتفرد ومركزة القرار والسلطة والمال بيد فئة واحدة مع اكسسوارات للزينة كما كانت سابقا، لكي تستمر حقبة تلد أخرى وتبقى حليمة في بلادنا على عادتها القديمة حتى قيام الساعة!؟