تكافحُ كلاً من روسيا وإيران لإبقاء سوريا في (الحجر) غير الصحي، في سباق توطيد الأقدام على الساحة السورية، كلٌ وفق معايير مصالحه الخاصة، ويتّضح حجم الخلافات السياسيَّة بينهما من خلال ما تراه إيران إقصاءً لها من تفاهمات موسكو مع أطرافٍ إقليميَّة ودوليَّة، فمع تطور الأزمة، تباينت مصالح الدولتين، وظهرت صعوبة التعايش متجاورين.
هناك جملة من الشُكوك العميقة والممتدة تاريخيًّا، تجعل عامل الثقة بين الحليفين المتآمرين متذبذبة، كما أن انحسار الاهتمام بالقضايا الدولية، وبقاء القوات الأجنبية والمرتزقة في سوريا، يُعطي انطباعًا بأنَّ حدة الخلافات حول طريقة تعاطيهما مع الشأن السوري وصلت تقريبًا إلى مفترق طرق.
أما الأهمّ فهو التفاهمات المنفردة الجارية بين روسيا وتركيا وواشنطن وإسرائيل، بمعزلٍ عن إيران، ولعلّ أكثر ما يخشاه إيران هو التقارب المستمر للمصالح الروسية والتركية في وقتٍ يتصادم طموح طهران مع الطموح التركي حول مِلفاتٍ عدة.
تُدرك إيران أن تركيا منافسٌ إستراتيجيٌ تاريخيٌ كبيرٌ لها على النفوذ والتوسع في سوريا، وتخشى طهران من أن يُعيد التاريخ نفسه وتصبح أنقرة إحدى العقبات الإستراتيجية الكبرى في سوريا خاصةً بما تملكهُ الأخيرة من مقومات تمكين قوية بالارتكاز على عضويتها في حلف الناتو، وعلى شراكتها القوية مع روسيا في إدارة الملف السوري، وعلى مبررات الجوار الجغرافي وأمن حدودها، بذريعة ملاحقة العمال الكوردستاني، فضلاً عن الكثير من الجماعات العسكريَّة من المعارضة السورية القابعة تحت إدارة وإشراف تركيا، بل يتلقون الأوامر من أجهزة المخابرات التركية، وبالتالي فإنَّ مصدر القلق الأساس لدى النظام الإيراني، هو أنه ثمّة توافقا غير معلن بين السياستين الروسية والتركية، حول مستقبل سوريا، تهدد الوجود الإيراني في سوريا.
ومنذ بداية الأزمة، عملت تركيا على إحداث تأثيرٍ ثقافيٍّ وديموغرافي في المناطق الكوردية من سوريا، ولا ترغب في حضورٍ إيراني ولو بسيط في هذه المنطقة، إذ قامت بتغيير التركيبة البشرية وتغيير هُوية المكان وإكسابه طابعًا تركيًا في مناطق الحدود مع سوريا، وتهدفُ من ذلك إلى خلق نطاقات سُكانيَّة واجتماعيَّة خاضعة لها في مناطق الحدود، بجعلها منطقةً خاضعةً للفصائل والتنظيمات السياسيَّة والعسكريَّة المدعومة منها التي تسيرُ في فلكها.
فكثيرٌ ممَّن يسكنون المدن المحتلة (تركيا) من كوردستان سوريا الآن هُم ليسوا من أبنائها، بل أعضاء وعائلات تلك التنظيمات وفصائل النهب والتعفيش التي استقدموا إليها بعد احتلالها، كعملية تطبيع وبسط نفوذ بغض الطّرف من روسيا والولايات المتحدة.
لاشك أن إيران قلقةٌ من استمرار تركيا في هذا النهج وسط صمتٍ روسي، وعلى الرغم من أنَّ إيران وتركيا سبقَ ونسقتا سويًا حول التحرك القومي الكوردي وخاصة أثناء عملية الاستفتاء على استقلال إقليم كوردستان في سبتمبر 2017م، وهناك تنسيق جارٍ بينهما لمنع تواجد أي نفوذ كوردي في كوردستان سوريا، إلّا أنه بدا واضحًا أن تركيا تنفردُ بالتنسيق مع روسيا، فهي تتبنى خيارات إستراتيجية مع الغرب، (حلفائها في الناتو)، مما أظهرت أنَّ التحالف الإيراني-التركي في سوريا، ليس إلا تحالفًا تكتيكيًّا مرحليًّا لا إستراتيجيًّا، سيزول بزوال أسبابه ومسوغاته.
فهي ترى أنَّ هذا المِلف يكتسب أهميةً أكبر بمراحل من الخطر الذي تزعم تركيا أنه يُواجهها من خلال سيطرة كوردية على المناطق المحاذية لحدودها، فتبقى طهران مستاءةٌ جرّاء التفاهمات التركية مع روسيا ، بادية حرصها على استمرار علاقاتها مع تركيا، على المستويات المختلفة، وتسوّق بأنها علاقاتٌ إيجابية، بل إنَّ طهران ربما ستلعب بشكلٍ أكبر دورَ الوسيط بين تركيا من جهة والنظام والكورد من جهةٍ أخرى.
فطهران لا تريد أن تُغامر بقطع علاقتها مع تركيا ولا التضحية بها، فهامشُ النظام الإيراني في المناورة أضحى قليلٌ جدًّا لإدراكه بأنَّ أمامه ضغوطًا إقليميَّة ودوليَّة، وربما تحتاج أنقرة كوسيطٍ في مِلفه النووي.
ولعل مصدر القلق الثاني ما تراه إيران، هو أولويةٍ الأمن الإسرائيلي في الأجندة الروسية، فمع مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، صدرت دراسةٌ استشرافية موسَّعة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي تضمَّنت "العمل على دفع روسيا لاستخدام نفوذها لفصل الميليشيات الموالية لإيران عن أجهزة الأمن السورية، وبلورة صورة مخابراتية مشتركة مع روسيا حول شكل وطبيعة الأنشطة الإيرانية التخريبية ضد مصالح الدولتين"، وتُفسر إيران هذا التنسيق بأنه ضوءٌ أخضر من روسيا للقوة الجوية الإسرائيلية لضرب وحداتها وميليشياتها في سوريا.
ويليها مصدر الانزعاج الثالث من روسيا، بإدخال موسكو للولايات المتحدة الأمريكية كطرفٍ في الأزمة السورية، حيث تتوجَّس إيران أيضًا من تنامي التفاهمات الأمريكية-الروسية ، الرافضة للدور الإيراني في سوريا، وإصرار الإدارة الأمريكية على استحواذ حقول النِّفط في سورية.
فبات الروس يعلمون أن النجاح في سوريا يتطلب تنفيذ التزاماتهم تجاه واشنطن هناك، ومنها ضمان أمن إسرائيل، وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وكل ذلك يتطلب إخراج إيران من سوريا، وفكّ ارتباطها بها.
وتُدرك روسيا مسؤولياتها كدولة كبرى، وتشعر ببلوغ نقطة الذروة في سوريا، وتخشى «الوهن الإستراتيجي الكامل»، وهي مرهقة مالياً، لذلك هي الآن أشد حرصًا من ذي قبل في الدفع باتجاه تصميم حلفٍ سياسيﱟ لإيجاد حلولٍ سياسية، بينما يرى النظام الإيراني، أنه لا يزال يحتاج مزيدًا من الوقت لتثبيت أقدامه أكثر في سوريا، كما يرى أنَّ مشروعه الطائفي سيذبُل بحلول السلام والاستقرار، وبات نظام طهران مقتنعًا أنَّ التسويات السياسيَّة ليست في صالحه في الوقت الحالي، كون الفوضى تُعَد بيئته المفضلة.
وذلك في الوقت الذي لا تُحبِّذ فيه موسكو أيّ إجراءٍ يُمكن أن يعزز النفوذ الإيراني في سوريا، ويدفع طهران إلى المطالبة لاحقاً بحصةٍ ودورٍ ومشاركةٍ في صياغة التسوية المنتظرة، والتي تريد روسيا وضعها مع الأمريكيين والأتراك.
في هذا الوقت ومع مجيء رئيسي إلى سدّة الحكم، ترسل طهران إشاراتٍ عبر دبلوماسييها أنها الوحيدة التي تستطيع زراعة الفوضى في التكتل السُني العربي المحيط بالكيان الإسرائيلي، وبما أنَّ طهران تُظهر من وقتٍ إلى آخر براغماتيةً عندما يتعلق الأمر بتحقيق مصالح كبرى، فقد لا تمانع مقابل أن يتم الاعتراف بها كلاعبٍ محوري في سوريا، من الاعتراف بإسرائيل وعمل صفقة جديدة، أو على الأقل توقيع اتفاقيات سرية تضمن تعهد إيران وحلفائها بعدم تشكيل أي تهديدٍ ضد إسرائيل، كفرضيةً ترتبطٌ بمدى الإصرار الروسي على استبعاد إيران من أن تكون شريكًا كاملًا في لعبة التفاهمات والمفاوضات القادمة.
كل ما سبق يقودنا إلى التوقع بأنَّ النظام الإيراني ستزداد عُزلته ومصاعبه وافتراقه عن روسيا التي أجادت إدارة الأزمة واختيار الأطراف المؤهلة لمشاركة صناعة قرارات المستقبل السوري.
فهل سيخضع القادم الجديد من النظام الإيراني أمام كل هذه الضغوط والتحديات لمعادلة الأمر الواقع، ويقبل بأن تُصيغ روسيا قرارات نهايات المشهد السوري، ويرضى هو بشئ من المكتسبات حفاظًا على ماء الوجه.