يبدو أن الربيع فصلاً كوردستانياً بامتياز، حيث تحتضن أيّامه منذ مطلعها وحتى نهاياتها أكثر أيّام الكورد فرحاً وحزناً، جمالاً وقبحاً، ألماً ومسرة، وبين هذه وتلك تمنح الطبيعة الخلابة أجمل ما فيها لذلك الكوردي الذي يقطر حبّاً للحياة وعشقاً للعمل والجدية والإخلاص، تُخفف عنه آلام الأيام وأحزانها وتُثير في خلجاته عشق الحياة بالصمود والتحدي، ممزقاً كتل الظلام المدلهم من حوله، ليبتدئ في يومه النوروزي الجديد إيقاعات الحرية والانعتاق في هذا الشهر المثير بجمال طبيعته وأحداث أيّامه.
حيث تمرّ العديد من المناسبات التاريخية في حياة شعب كوردستان، ويختلط فيها الحزن والفرح بين تاريخ خالد يشيع الأمل والسرور وتاريخ حزين يتذكره الناس بألم، ففي منتصف هذا الشهر وقبل ما يزيد على قرن من الآن، ولد الزعيم التاريخي للكورد وكوردستان الملا مصطفى البارزاني عام 1903، وفي الأول منه وقبل 42 عاماً، أي في عام 1979، ارتحل بعد أن نقش على سلاسل جبال وطنه ملامح المستقبل القادم لشعب يرفض الاستكانة ويصرُّ على إثبات هويته الإنسانية المعطاء، ليكون بحق رمزاً تاريخياً كبيراً يمثّل نهضة شعبه ووطنه.
ليس من السهل ولوج حياة رجل اختزل تاريخ شعب عبر أكثر من ألفين وسبعمائة عام، لكنه ببساطة الحكماء أوحى لنا جميعاً بأن الحياة رغم تعقيداتها أصغر من أن تعترض إرادة الإنسان وتحدياته الصادقة فشق طريقه عبر قساوة الطبيعة والحياة واتجه نحو الشمس، حاملاً راية الحرية لشعب يمزقه ظلام التخلف والاضطهاد، فلم يكن الزعيم مصطفى البارزاني مجرد ثائر يقود شعبه للانعتاق، بل كان خلاصة لحقب من الأزمان منذ كاوة الحداد وحتى انتفاضة آذار 1991م، حيث أختزل تاريخاً ومارس سلوكاً، أصبح فيما بعد نهجاً ومدرسةً للتربية والأخلاق، وفلسفةً في التعامل والتعاطي مع مستجدات وثوابت الحياة، من خلال إدراكه منذ البداية لحقيقة شعبه ووطنه المشكل من التضاريس الحادة والمتناقضة بين تخوم حمرين وشنكال جنوباً وحدود آسيا الصغرى شمالاً، فاندفع بكل ثقل التاريخ وإرثه باتجاه الشرق علّه يجد ضالته بين أحضان مهاباد، فكانت خطوته الأولى باتجاه الشمس، هناك كان المخاض الأصعب والولادة الأعسر والقرار المستحيل، اجتمعت فيه كل وحوش الشرق المفترسة حاملة معها جوع العنصرية وفقر الشوفينية وانتهازية الرفاق الحمر آنذاك، متربصة تلك الولادة لتنقض على الوليد افتراساً وتمزيقاً.
في قلب هذه التراجيديا كان البارزاني مصطفى قد أدرك استحالة ديمومة الوليد في طوفان من الهمجية والبربرية، فتداعت الأحداث واندفعت قطعان البهائم الهائجة لتفترس وتسحق فرسان الشمس، ولأنه أدرك كل ذلك فقد حمل الوليد بين أضلعه واندفع مع ثلة من رجال الشمس في كل اتجاهات الأرض من حوله شاقاً طريقه المعروف في رحلته الأسطورية إلى وطن الرفاق الحمر، ليستقر هناك في استراحة الثوار وليمنح ذلك الوليد فرصة النمو والحياة، ولم تكن سنوات الرحيل إلى (الاتحاد السوفييتي) إلا مرحلة للتأمل والتهيؤ لحقبة خطيرة في تاريخ هذا الشعب الذي سيبدأ أولى خطواته نحو تحقيق ذاته في خضم عالم مليء بالتناقضات والأستقطابات في دنيا الحرب الباردة التي جاءت على أنقاض حربين قذرتين لتقاسم (العبيد) و(الغنائم) من إمبراطوريات ودول القبائل والعشائر. وكان أهم نتاجات تلك الحرب الباردة ما أطلق عليه في أدب شعوب الشرق بالثورات والانقلابات التي أنتجت أنظمة إما مصنعة بالكامل في دهاليز ودوائر المتصارعين الكبار أو تمّ احتوائها لاحقا من قبلهم.
لقد أدرك البارزاني هذه الحقائق قبل عودته إلى بغداد عاصمة (الجمهورية الخالدة) التي عاد إليها بعد تغير الشكل وبقاء المضمون، وكان يعرف جيداً أن إقامته في الجمهورية الأولى ليست طويلة وأنه ذاهب إلى حليفه الأبدي وحضن وليده الذي خرج به قبل اثنتي عشر عاماً، ويقيناً كان البارزاني في تأملاته يرى كاوة الحداد في وجوه أولئك الذين يحتضنون جبال كوردستان باحثين عن طريق إلى شمس الحرية، وقد أدرك بحسه التاريخي وتحليلاته العميقة أن الخطوة الأولى ستكون حتماً من قلب كوردستان وليس من بغداد، التي ما أن وصلها حتى اكتشف إنها واحدة من نتاجات الحرب الباردة التي أفرزتها حروب العبيد والغنائم وكان (الوليد) ضحية من ضحاياها، فكانت بعد فترة وجيزة ثورة الخريف (11 أيلول 1961) بعد أكثر من 2661 سنة من ثورة كاوة الأول التي أزاحت ظلام القهر والعبودية، لكي تتبعها عشرات الثورات والعديد من الأمارات والمشيخات، لكنها لم تحدث خرقاً تاريخياً وتحولاً اجتماعياً نوعيا كما أحدثته ثورة البارزاني.
البارزاني الذي كان قائدا ميدانياً ينتج الفلسفة ولا يؤلفها ويطلق عنان الثورة ولا ينظِّر لها، كان بحد ذاته منظومة من السلوك والتربية والتعامل الإنساني الذي يقترب في تفاصيله من زهد الزاهدين وصوفية الناسكين، عمل جندياً وقائداً في آنٍ واحد دونما أن يُثقلَ على حركة وقانون الحرب، ويتحسس مشاعر العدو وأفراده ويفترض دائماً أنهم ضحايا مجبرين ويوصي بجرحاهم وأسراهم حتى من كان منهم قاسياً في أدائه الواجب أثناء الحرب، وقد أقرّ الفصل بين الأنظمة والشعوب منذ البداية، وبشر الآخرين بأن مفتاح الحل هو الديمقراطية في تحقيق أهداف الشعب سواء ما كان منه في كوردستان أو في العراق ورفع شعار الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان، مؤكداً بشكل دائم بأن العرب والكورد ضحايا الدكتاتوريات وأنه لا خلاص إلا باحترام حقوق الآخرين والاعتراف بهم، فلم يكن البارزاني قائد ثورة فحسب، بل كان تاريخاً من الحكمة والفلسفة والزهد ابتدأت بالشيخ عبدالسلام بارزاني والشيخ احمد البارزاني وما اورثوه من منظومة سلوكية وتربوية واخلاقية.
كان الرجل بسيطاً متواضعاً نقياً أبيض القلب واليد، أبعد نفسه عن هالات والبروتوكولات الرئاسية وبيروقراطيتها ومظاهرها، ووضع حوله خيرة رجال الثورة وأكثرهم طهارة وإخلاصا في المال والإدارة، وبذلك اخترق أدق مشاعر وأحاسيس شعبه حتى حسبه الناس أباً وعماً وأخاً كبيراً. واليوم بعد أن أصبح رمزاً ونهجاً وعنواناً لنهضتنا وحكاية شعبنا منذ كاوه الحداد وحتى يومنا هذا، يحق لنا أن نسأل:
هل ما زلنا ننتهج ذات النهج والسلوك، وهل يعرف الجيل الجديد أن الأسس الأولى ولبناتها في حياة اليوم إنما وضعها مصطفى البارزاني ورفاقه؟ فهل وافينا الرجل حقه؟