السلطة والمال امتحانان عسيران، يخرجان معدن الرجال والنساء، ويُظهران حقيقة الشعوب حرة كانت ام مستكينة، وفي نهاية اللعبة يخرج منهما المرء كريماً أو مُهاناً، وفي بلادنا التي حباها الله بثروات هائلة تحت الأرض وفوقها، ومكونات حيوية سكنت ثراها المتنوعة التضاريس والمليئة بالمياه والغابات، تجّملها الهضاب والصحاري المكتنزة بما منحته الطبيعة من معادن ومركبات، بلاد تضم شعوباً وأدياناً ومذاهب وقوميات وأعراق، لا تختلف عن أي بلاد في الأرض إلا في حظها السيء وإداراتها الأسوء منذ تأسيسها ككيان سياسي رغم إرادة مكوناتها.
إدارات تسلطت بغفلة من الزمن التعس والاستغلال البشع لتخلف الأهالي وفقرهم، مستغلةً شتى أنواع المفاتيح الغرائزيّة والدينيّة والعنصريّة لتبرير استمرارها في الاستحواذ على المال والثروة والحكم وترك الأهالي يتلظون فقراً تغطيهم أكداس من "اللنكات والبالات" في الملابس والأفكار والثقافات، حتى حولوا البلاد إلى سوق شعبي لبيع وشراء المستهلكات.
ولكي يدرك قراءنا من خارج البلاد العراقية، ما تعنيه "اللنكات والبالات" كمفردات ومتداولات شعبية عراقيّة موروثة تعطي صور بلاغية في التوصيف، قد لا ترتقي له الفصحى في كثير من الحالات، خاصةً لدى القراء العراقيين، ولكي يكون قارئنا من خارج العراق على دِراية بمعنى مفردتي "اللنكة والبالة "، علينا أن نعرف معناهما في الفصيح، فـ "اللنكة" تعبر عن أي شيء قديم بسبب الاستخدام وليس بالزمن فقط، وكذا الحل في "البالات" التي تصف الملابس المستخدمة، والتي تكثر اليوم في أسواق العديد من مدن الشرق الأوسط، وتضاعفت كثيراً بعد اندلاع مهرجانات الربيع العربي الدامي، وهي في معظمها قادمة من أوربا وأمريكا بأكداس معبقة بمشاريع الديمقراطية والعولمة ومراكز ومعاهد تعليمها، التي انتشرت بكثافة تشبه غزارة دكاكين أسواق هرج ومريدي العراقية!
ودعوني استعير اللفظتين الدارجتين اللتين تعبران عن المواد المستهلكة وأحياناً كثيرة المهترئة، للتعبير عن شريحة من السياسيين والإعلاميين المستخدمين والمستهلكين كثيراً إلى درجة ربما أكثر من اللنكات أو البالات، حيث وصل حال بعضهم إلى درجة مزرية تقترب من الاهتراء والاندثار، رغم كل الإكسسوارات والمنشطات الداعمة من الممولين، والتسميات والعناوين الممنوحة لهم على شاكلة مدير معهد أو مركز كذا للديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصةً أولئك الذين أنتجتهم نافورة الإعلام ومفرخات السياسة البلهاء في بلدان ما يزال سياسيوها اللصوص يصرّون على نزاهتهم باسم الرّب والكتاب المقدس والأمة العظيمة، حالهم حال رفاقهم في داعش الإرهاب التي ادّعت وكالتها للرّب على الأرض، وقيامها بواجباته المفترضة على أساس عقيدتها الفاسدة، في ذبح وسلق وحرق وتقطيع المختلف معهم كما حصل في سنجار وتلعفر، التي سبو نسائها واستعبدوا أطفالها وقتلوا آلافاً من شبابها وشيوخها، لا لشيء إلا لأنهم لا يجيدون الشهادة على طريقتهم ولا يعرفون الوضوء كما يشتهون هم!
هؤلاء المستهلكين حدّ الرثاثة، لا لكونهم مخضرمين، بل لكثرة استخدامهم من ممولين وأصحاب أجندات وأموال، ينفذون من خلال مواسم الأزمات والوفرة المالية ليقدموا خدماتهم في بيئة فاسدة تستدعي استخدام المستخدم وإن كان مستهلكاً كما يفعل الكثير من الساسة والإعلاميين، وما يُسمون بالخبراء الاستراتيجيين ومدراء معاهد ومراكز ما يُسمى بالديمقراطية أو كما ينطقها بعض الأهالي تهكماً "الديموغلاجية " أي ديمقراطية الحرامية وحكمهم.
حيث عجت السوق السياسية العراقية وبازار الفضائيات وقاعات مزايدات المشاريع بالمئات من هؤلاء الحاملين لعناوين لا أساس لها في تكوينهم أو قابلياتهم أو تأهيلهم، فتراهم منتشرين في البرلمان والحكومة والإعلام ومنظمات أو دكاكين ما يُسمى بالمجتمع المدني ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ولكي لا نظلمهم ونفرق بين "اللنكة" و "البالات"، فإن "اللنكة" خير ما تنطبق على الكثير من شاغلي كراسي البرلمان والحكومة وملحقاتها في جميع الوزارات، وخاصةً غالية الثمن مثل الخارجية والداخلية والمالية والعدل والدفاع، أما "البالات" فخير ما ينطبق عليهم هذا التوصيف هم إعلاميو الصدفة وفضائيات البذاءة وأصحاب دكاكين ما يُسمى بمراكز ومعاهد الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تأسست في السنوات الأخيرة لبيع وشراء كافة أنواع المشاريع والكوبونات والمقابلات الفضائية مدفوعة الأجر، بعد أن فشل أصحابها بالاستئثار على منصب في أفشل دولة بالعالم، ففتحوا دكاكينهم لبيع أكداس من " اللنكات والبالات " السياسية والإعلامية وحسب المقاسات والأحجام!
ما جرى اليوم في عروسة الشرق والبحر المتوسط بيروت الحضارة من محاولة إزالتها من الوجود لصالح الهمج، وما يجري في عراق سومر وبابل واور واكد وآشور وميديا لمسخها وتشويهها، هذه البلاد التي تعوم على بحور من الثروات وتعلوها أجمل وأثرى ما في الطبيعة من تضاريس ومياه وخصوبة، وتسكنها أقوام وأعراق لو أتيحت لها فرصة التحرر والتقدم وحق تقرير المصير، لأقامت حضارة تفتخر بها الإنسانية جمعاء، لكنهم الأوباش العنصريون والمتطرفون قومياً ودينياً وحوش العقلية السائبة والعقم الذكائي، أحالوها إلى دولة للبالات واللنكات، تعج فيها عصابات ومافيات باسم الرّب تارةً وباسم المذهب تارةً أخرى، وما هم في حقيقة الأمر إلا كما يقول العراقيون "سلّابة نهّابة"، حولوا البلاد إلى ركام وخراب، فباتت أكثر بلدان العالم فساداً وفشلاً وتخلفاً بعد أن كانت منارة للحضارة والتقدم لكل البشريّة.