هناك، كما أشار الزميل حازم الأمين في ملحق «تيّارات» يوم الأحد الماضي، فارق كبير بين انتقادين لكورد العراق: الانتقاد الذي يتحفّظ على الاستفتاء، وعلى الدولة تالياً، بسبب الظروف أو القدرات أو المعطيات الاستراتيجيّة أو النظام نفسه، والانتقاد الذي يرفض، من حيث المبدأ، قيام دولة لكورد العراق. يرفضه اليوم أكثر من أمس. يرفضه دائماً وبالمطلق.
الانتقاد الأوّل يقع في السياسة. الثاني في الجوهر.
أصحاب الانتقاد الثاني يقرنون أيّة استقلاليّة كورديّة بتفكيك العراق وبإنشاء إسرائيل أخرى هي، في الحدّ الأدنى، حليفة إسرائيل الصغرى! الحجج التكراريّة هذه يزيدها فقراً حال التفكّك غير المعلن الذي يعيشه العراق راهناً، وتعيشه المنطقة عموماً، فضلاً عن اتّساع رقعة التسليم بفشل نظام الدولة والاجتماع القائمين في المشرق العربيّ.
أهمّ من هذا، أنّ أصحاب الحجج المذكورة لا يَبدون معنيّين بتاتاً برأي كورد العراق في أحوالهم، وهم طبعاً غير معنيّين بمحاورتهم في رأيهم رغبةً منهم في تغييره، أو تعديله، أو الوصول إلى تسوية معه. إنّ ما يفعلونه يشبه اختيار السيّد غرفةَ نوم خادمه: نم هنا أو انقرض.
هذا التجاهل يبلغ ذروة إدقاعه حين لا يكون هناك عراق قابل لتقديمه مرجعاً صالحاً يُركَن إليه، ولا يكون هناك عراق قابل أن يصير وعداً بمستقبل يخالف الماضي. فأيّ عراق هو ما يغري الكورد: عراق عبد الكريم قاسم حين بدأت حرب السلطة المركزيّة على الشمال؟ عراق بعث 1963 حين استعين بقوّات سوريّة لإخضاع الشمال؟ عراق عبد السلام عارف حيث عُقد ثمّ انهار اتّفاق 1964؟ عراق أحمد حسن البكر حيث عُقد ثمّ انهار اتّفاق 1970؟ عراق صدّام حسين بالأنفال وحلبجة؟ عراق ما بعد 2003 حيث الخلاف الضاري على معنى «الفيديراليّة» في موازاة توطّد «الهيمنة الشيعيّة العربيّة» كمحاكاة مقلوبة لـ «الهيمنة السنّيّة العربيّة» السابقة؟
هذه الأنظمة جميعها، وعلى مدى ستين عاماً، اختلفت في ما بينها كثيراً. اختلفت سياسيّاً وأيديولوجيّاً وفي تمثيلها الاجتماعيّ والطائفيّ. لكنّها، مع هذا، حافظت على أمر مشترك: إخضاع كورد الشمال. و «الصدف» حين تتكرّر كلّ هذا التكرار تغدو «قانوناً».
لقد عانى الكورد على يد الوطنيّة العراقيّة في عهد قاسم لأنّها اعتبرتهم الغرفة الملحقة بالبيت العراقيّ. لكنّهم عانوا أكثر كثيراً على يد العروبيّة العراقيّة للبعث، قبل أن تنتقل العهدة إلى الشيعيّة السياسيّة في تمايزها المزدوج، القوميّ والطائفيّ، عنهم. والحال أنّه منذ انهيار السلطنة العثمانيّة، التي استبعدت الأقلّيّات غير المسلمة، فيما وفّرت رابطة عابرة للقوميّات بين المسلمين، لم تنشأ علاقة متوازنة وعادلة تجمع بين مسلمي العراق، ناهيك عن أقلّيّاته غير المسلمة. وقبل كلّ حساب وبعده، لم يدخل الكورد في العراق الحديث مختارين. لقد قصفتهم الطائرات البريطانيّة كي يصبحوا عراقيّين.
لكنْ هل يمكن القول، مثلاً، إنّ المستقبل يتكفّل إنتاج صيغ ومؤسّسات وقنوات مشتركة؟ التجربة تقول العكس تماماً: ففضلاً عن الدولة والجيش، ناهيك عن السكن، لا يوجد جسر يجمع: الحزب الشيوعيّ العراقيّ، مثلاً، الذي حضن ذات مرّة تمثيلاً كرديّاً معقولاً، يكاد يتبخّر. وإلى انفجار الهويّات في العراق وفي سائر المنطقة، يمتّ تاريخنا الحديث بأكثر من صلة إلى تقليد يرجع إلى «الاتّحاد والترقّي»: آنذاك انعقد تحالف بين إصلاحيّي الترك وإصلاحيّي الأقلّيّات، لكنْ ما إن حصلت ثورة 1908 حتّى افترقت الطريقان: الترك كان همّهم الحفاظ على إمبراطوريّة متداعية، والآخرون همّهم نيل حقوقهم. الأوّلون كانت قوميّتهم مشرعة على الاستبداد. الأخيرون قوميّتهم مشرعة على طلب الحرّيّة والمساواة.
هذا التقليد اشتغل طويلاً ولا يزال يشتغل. وهذا من الأسباب التي أضعفت النسيج الوطنيّ لمجتمعاتنا كلّها، كما أضعفت ثوراتنا ومحاولاتنا للإصلاح، جاعلةً كلّ سياسة تتقاطع مع رداءة الاجتماع الوطنيّ في كلّ بلد من بلداننا.
فلماذا، ووراءنا كلّ هذا العبث، وكلّ هذا الدم، نمسك بالكورد من أعناقهم ونصرّ عليهم: ابقوا معنا في هذا السجن بوصفكم خدّام المساجين؟ ابقوا معنا وإلاّ فأنتم خونة!
المصدر-جريدة الحياة